كتاب تجسد الكلمة - القديس أثناسيوس الرسولي
# تقديم للقمص مرقس داود:
عندما شرعت في مراجعة هذا الكتاب لم أكن أتوقع كل هذه الكنوز اللاهوتية، فقد لقب أثناسيوس الرسولي بحق أنه "حامي الإيمان" ولعل أهم ما يقوله أثناسيوس عن المسيح يتلخص فيما يلي:
" هذا هو الذي صلب أمام الشمس وكل الخليقة كشهود، وأمام من أسلموه إلى الموت. وبموته صار الخلاص للجميع، والفداء لكل الخليقة، هو حياة الجميع، الذي سلم جسده إلى الموت نيابة عن الجميع، ولأجل الجميع، ولو لم يؤمن اليهود بذلك (فصل 37: 7) فليس بأحد غيره الخلاص.
أما ما يقوله أثناسيوس لليونانيين فأهمه هو قوله : إن الفلاسفة اليونانيين (وخاصة أفلاطون) يقول أن الكون جسم (أو جسد) هائل، وهذا حق لأننا نراه، ونرى أجزاءه واقعة تحت حواسنا، فإن كان كلمة الله في الكون الذي هو جسم وان كان قد اتحد بكل الكون وبكل أجزائه، فما هو وجه الغرابة أو السخف إن قلنا إنه اتحد بالإنسان أيضا؟ (فصل 41: 5) ويضيف كذلك:
" إنه لو كان حلوله في جسد أمرا سخيفا وغير معقول، لكان أمرا سخيفا أيضا أن يتحد بكل الكون، ويعطي ضياء وحركة لكل الأشياء بعنايته، لأن الكون أيضا جسد. أما إن كان قد لاق به أن يتحد بالموت، وأن يعرف في الكل، وجب أن يليق به أيضا أن يظهر في جسد بشري، وأن يستضئ به ذلك الجسد ويعمل، لأن البشرية جزء من الكل كسائر الأجزاء. ولو كان آمرا غير لائق أن يتخذ جزءا كأداة يعلم البشر بها عن لاهوته، لكان أمرا في غاية السخف أن يعرف بواسطة كل الكون أيضا فصل 41: 6و7
المسيح كلمة الله الحي باسمه تخرج الشياطين وان كانت الشياطين تعترف به، وأعماله تشهد له يوما فيوما، فقد اتضح جليا – ويجب أن لا يتصلف أحد نحو الحق- أن المخلص أقام جسده، وأنه هو ابن الله الحقيقي المولود منه وأنه هو كلمته وحكمته وقوته، الذي في الأزمنة الأخيرة اتخذ جسدا لخلاص الجميع، وعلم العالم عن الله (الأب) وأبطل الموت ووهب الكل عدم الفساد بموعد القيامة إذ أقام جسده كباكورة لذلك، وأظهر بعلامة الصليب كعلامة للظفر على الموت وفساده (فصل 32: 6) " فلقد بسط المسيح يده على الصليب الذي وهو روح لا جسد له ظهر في الجسد (اتخذ جسدا) من أجلنا وتألم عن الجميع (فصل 38: 2) فليس اسم آخر تحت
" عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد"
تفرد المسيح بأنه كلمة الله الأزلي المتجسد. لماذا؟!!! لم يكن ممكنا أن يتأله الإنسان ليتصل بالله. فالله بنفسه اختار طوعا أن يتجسد.
الله الكلمة اتخذ جسدا
ففي المسيح حل كل ملء اللاهوت جسديا.
الله نور لا يدنى منه، والمسيح هو صورة الله غير المنظور.
الله محبة، والمسيح هو تجسد محبة الله لكل البشر وقد أظهر الله محبته في الصليب فتم الفداء وفتحت أبواب الخلود لمن يقبل عمل الله في المسيح لأجل خلاص نفسه.
الفصل الأول
"مقدمة هذه الرسالة اتضاع وتجسد الكلمة. افتراض عقيدة الخليقة وذلك بواسطة الكلمة. لقد خلص الآب العالم بذاك الذي به خلقه أولا"
1- إذا اقتصرنا في بحثنا السابق على القليل من الأقوال الكثيرة مما يكفي لبيان ضلالة الأمم (1) بصدد الأوثان وعبادة الأوثان، وكيفية اختراعها في بداية الأمر، وكيف كانت شرور البشر هي الباعث على تفكيرهم في عبادة الأوثان، وبعد أن عرفنا بنعمة الله أيضا شيئا عن لاهوت كلمة الآب وعنايته الشاملة وسلطانه، وكيف أن الآب الصالح ينظم كل الأشياء بالكلمة، وأن به تتحرك كل الكائنات وبه تحيا- تعال الآن أيها العزيز مكاريوس (2) يا خليقا بهذا الاسم ويا محبا للمسيح بالحق ولنتتبع إيماننا المسيحي(3) ولنظهر كل ما يتعلق بتأنس الكلمة وظهوره الإلهي بيننا، الأمر الذي يسخر منه اليهود، ويهزأ به اليونانيون، وأما نحن فنعظمه ونبجله، وذلك حتى تزداد وتتضاعف تقواك نحو الكلمة على قدر ضعف مظهره
2- فانه كلما ازداد استهزاء غير المؤمنين بالكلمة، ازدادت الشهادة التي يعطيها عن لاهوته. لأن ما يعتقده البشر مستحيلا يثبته الله ممكنا وسهلا وليس ذلك وحسب بل أن ما يسخرون منه ويعتقدونه غبير لائق يلبسه بصلاحه ثوب اللياقة والجمال، وما يهزأون به بغرورهم وادعائهم الحكمة، ويتوهمونه بشريا، يظهره هو بسلطانه الهيا وفي ذلك كله نتغلب على الادعاءات والافتراءات الوثنية بما يظنه العالم ضعفا، أي بصليبه ويقنع بطريقة خفية أولئك الهازئين وغير المؤمنين، ليدركوا لاهوته وسلطانه.
3- ولعلاج هذا الموضوع أراه لزاما على أن ألخص ما سبق أن قررته (4) حتى لا تفوتك معرفة سبب ظهور كلمة الآب الجليل القدر في الجسد، وحتى لا تتوهم أنه كان من مستلزمات طبيعة مخلصنا أن يلبس جسدا، بل لكونه خاليا من الجسد بطبيعته، ولأنه هو الكلمة منذ الأزل قد ارتضى بتحنن أبيه وصلاحه - أن يظهر لنا جسد بشري لخلاصنا.
4- إذن فيليق بنا أن نبدأ بحث هذا الموضوع بالتحدث عن خلقة الكون وعن الله بارئه، وعندئذ يمكننا أن ندرك أن تجديد الخليقة كان من عمل نفس الكلمة الذي خلقها في البداية. إذ سوف يتضح أنه لم يكن أمرا مخالفا أن يتمم الله خلاص العالم بذاك الذي خلقه به أولا.
الحواشي
(1) أي الوثنيين (2) له كتاب آخر بعنوان الرسالة إلي الوثنيين ف 1. قد يكون هذا الاسم مستعملا هنا رمزيي فقط. (3) أنظر 1تيموثاوس 3: 16 (4) في الرسالة السابقة
الفصل الثاني
دحض بعض الآراء الخاطئة عن عملية الخلقة
(1) مذهب الأبيكوريين، وهو القائل بأن الخلق مصادفة، لكن تعدد الأجسام والأجزاء يستلزم وجود قوة خالقة
(2) مذهب الأفلاطونيين، وهو القائل بوجود المادة من قبل، وهذا يخضع الله للحدود البشرية، ويجعله لا خالقا بل صانعا ميكانيكيا.
(3) مذهب اللاأدريين أو الأغنسطيين، وهو القائل بوجود خالق آخر وهذا يشجبه الكتاب المقدس.
1- لقد نحا الكثيرون مناحي مختلفة في صدد صنع الكون وخلق جميع الأشياء، ووضع كل منهم المبدأ الذي يتفق وأهواءه. فالبعض توهم أن كل الأشياء وجدت من تلقاء ذاتها وبمجرد الصدفة، كالأبيكوريين مثلا {1} الذين يدعون بغرورهم أن لا وجود لتلك العناية التي تهيمن على الكل، وهم في ذلك يناقضون الحق الواضح والاختبار الملوس.
2- فلو صح زعمهم بأن كل شئ وجد من نفسه، خلواً من آيه غاية لننتج من هذا أن جميع الأشياء لابد أن تكون قد خلقت بطريقة واحدة في حال واحدة – متشابهة وغير متميزة عن بعضها. وبالتالي كان يجب من جهة اتحاد الجسم أن يكون الكل شمسا أو قمرا. وفي حالة الإنسان كان يجب أن يكون الكل عينا أو يدا أو رجلا. الحال غير هذا بل العكس أننا نرى تمييزا في الخليقة. فنرى الشمس والقمر والأرض. وفي الأجساد البشرية نرى الرجل واليد والرأس. فهذا التمييز يدل على أنه قد تقدمتها علة، ومن هذه العلة نستطيع أن ندرك الله كخالق وباعث للكل.
3- والبعض الآخر – وضمنهم أفلاطون {2} الذي ذاعت شهرته بين اليونانيين – يزعمون أن الله صنع العالم من مادة موجودة من قبل لا بداية لوجودها{3}، لأنه لم يكن ممكنا لله {4} أن يصنع شيئا ما لم تكن مادة الخشب متوفرة بين يديه.
4- على أنهم بقولهم هذا لا يدركون أنهم ينسبون الضعف لله لأنه لو لم يكن هو باعث المادة، بل يصنع الأشياء من المادة الموجودة من قبل، فهذا معناه أنه ضعيف، لأنه إذ ذاك لا يستطيع إيجاد شئ بدون توفر المادة لديه، كما أنه لا شك يعتبر ضعفا من النجار أن لا يستطيع صنع أي شئ يحتاجه دون توفر الخشب لديه. لأنه يترتب على هذا الزعم أنه لو لم تكن المادة قد توفرت لدى الله لما كان قد صنع شيئا. وكيف يسوغ لنا في هذه الحالة أن ندعوه خالقا وبارئا إن كان يدين بقدرته على الخلق لمصدر آخر, أي المادة؟ فلو كان الأمر كذلك لكان الله حسب رأيهم صانعا ميكانيكيا، ليس خالقا من العدم. مادام يصنع الأشياء من المادة المتوفرة لديه دون أن يكون هو الباعث للمادة، لأنه لا يمكن بأي حال أن يدعى خالقا ما لم يكن هو الخالق للمادة التي منها صنعت جميع المخلوقات بدورها.
5- وأما المبتدعون فيتوهمون لأنفسهم خالقا آخر لكل الأشياء. غير أبي ربنا يسوع، وهم بذلك يبرهنون على منتهى العمى. لا يرون حتى نفس الألفاظ التي يستعملونها.
6- لأنه إن كان الرب قد قال لليهود " أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا وأنثى وقال من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدا واحدا" ثم قال أيضا مشيرا إلي الخالق " فالذي جمع الله لا يفرقه إنسان{5}، فكيف يسوغ لأولئك القوم أن يدعوا بأن عملية الخلق لا تنسب إلى الآب؟ أو حسب تعبير "يوحنا" الذي يتحدث عن جميع الكائنات بلا استثناء أن كل شئ به كان وبغيره لم يكن شئ مما كان {6} فكيف يمكن أن يكون الخالق شخصية أخرى غير الآب؟
الحواشي
{1} هم أتباع أبيكورس الفيلسوف الوثني الذي ولد سنة 341 ومات سنة 270 ق.م
{2} أحد فلاسفة اليونان أيضا عاش من سنة 427 الى سنة 347 ق.م
{3} أو غير مخلوقة كبعض الترجمات
{4} حسب ادعائهم
{5} متى 19: 4-6
{6} يوحنا 3:1
الفصل الثالث
العقيدة السليمة خلقة الكائنات من العدم لسبب فرط جود الله وكرمه. خلقة الإنسان أعلى من سائر الكائنات ولكن دون أن تكون له المقدرة على البقاء مستقلا عن غيره. العطية السامية الممتازة التي منحت اليه أن يكون على صورة الله ومثاله، مع وعده بالسعادة بشرط استمراره في النعمة.
(1) وهكذا نراهم يتخبطون في أوهامهم وترهاتهم. أما التعليم الالهي والايمان بالمسيح، فانهما يدمغان أقوالهم الغبية بوصمة عار، ويظهران أنها كفر والحاد. لأنه معلوم أن الكائنات لم تخلق من تلقاء ذاتها، فان خلقها يستلزم وجود فكر سابق. كما أنها لم تخلق من مادة موجودة من قبل. لأن الله ليس ضعيفا. ولكن الله خلق الكون من العدم، ومن غير سبق وجوده مطلقا، بكلمته. كما يقول (أولا) على لسان "موسى" في البدء خلق الله السموات والأرض" {1} وثاينا في الكتاب الباني جدا الذي يسمى الراعي {2} وقبل كل شئ اؤمن بأن الله واحد. الذي خلق وصور كل الأشياء, وأوجدها من العدم
(2) والى هذا يشير أيضا بولس إذ يقول : " بالإيمان نفهم أن العالمين أتقنت بكلمة الله، حتى لم يتكون ما يرى مما هو ظاهر {3}
(3) لأن الله صالح. أو بالحري هو بالضرورة مصدر الصلاح. والصالح لا يمكن أن يبخل بأي شئ. لذلك فانه إذ لا يضن بنعمة الوجود على أي شئ. خلق كل الأشياء من العدم بكلمته – يسوع المسيح ربنا. وفضلا عن ذلك فانه إذ أشفق بصفة خاصة على الجنس البشري دون سائر المخلوقات على الأرض، وإذ رأى ضعفه بطبيعة تكوينه عن أن يبق في حال واحدة, منحه نعمة أخرى، فانه لم يكتف بمجرد خلقته للإنسان، كما خلق باقي المخلوقات غير العاقلة على الأرض. بل خلقه على صورته ومثاله، أعطاه نصيبا حتى في قوة "كلمته". لكي يستطيع وله نوع من ظل الكلمة، وقد خلق عاقلا، أن يبق في السعادة أبداً، ويحيا الحياة الحقيقية حياة القديسين في الفردوس.
(4) ولكن لعلمه أيضا أن أراد’ الانسان يمكن أن تميل الى احدى الجهتين (أي الخير والشر) سبق فدعم النعمة المعطاة له، بالوصية التي قدمها اليه، والمكان الذي أقامه فيه، لأنه أتى به الى جنته، وأعطاه وصية، حتى إذا حفظ النعمة, واستمر صالحا، استطاع الاحتفاظ بحياته في الفردوس بلا حزن ولا ألم ولا هم، فضلا عن موعد عدم الفساد في السماء. أما إذا تعدى الوصية وارتد وأصبح شريرا فيعلم بأنه يجلب على نفسه الفساد بالموت الذي يستحقه بالطبيعة، وأنه لا يستحق الحياة في الفردوس بعد، بل يطرد منه من ذلك الوقت , ولكي يموت ويبقى في الموت والفساد.
(5) وهذا يحذر منه الكتاب المقدس قائلا بفم الله " من جميع شجر الجنة تأكل أكلا. أما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها. لأنك يوم تأكل منها موتا تموت{4}. وماذا يعني بقوله موتا تموت. ليس المقصود مجرد الموت فقط. بل أيضا البقاء الى الأبد في فساد الموت
الحواشي
{1} تكوين 1:1 {2} لمؤلفه "هرماس" أحد مؤلفي الجيل الأول للمسيح {3} عبرانيين 4:11 {4} تكوين 2: 16و 17
الفصل الرابع
اتصال خلقتنا والتجسد الإلهي أحدهما بالآخر اتصالا وثيقا. وكما خلق الإنسان بكلمة الله من العدم إلى الوجود ثم نا نعمة إلهية، كذلك بخطية واحدة خسر تلك الحياة. وجلب على نفسه الفساد. وملأت الخطية والشقاء العالم.
1- قد تدهش وتتساءل عن السبب في هذا البحث عن أصل البشرية طالما كان القصد من هذه السرالة التحدث عن تجسد الكلمة. ولكن اعلم أن هذا البحث أيضا يتصل بالغرض من هذه الرسالة.
2- لأننا عند التحدث عن ظهور المخلص بيننا. يتحتم علينا التحدث عن أصل البشر. ولكي تعلم أن نزوله إلينا كان بسببنا, وان عصياننا استدعى تعطف الكلمة لكي يسرع الرب في اغاثتناوالظهور بين البشر.
3- لأن اغاثتنا كانت هي الغرض من تجسده. ولأجل خلاصنا أظهر محبته العظمى إلى حد أن يظهر ويولد في جسد بشري.
4- فالله إذ خلق الإنسان، وقصد أن يبقى في عدم فساد. أما البشر فأذ احتقروا ورفضوا التأمل في الله، واخترعوا ودبروا الشر لأنفسهم، كما تقدم بحثه في الرسالة السالفة (1) فقد استحقواحكم الموتالذي سبق تهديدهم به. ومن ذلك الحين لم يبقوا بعد في الصورة التي خلقوا عليها. بل فسدوا حسبما أرادوا لأنفسهم(سفر الجامعة الإصحاح 7 وعدد 29 مع رسالة رومية الإصحاح الأول الأعداد 21و22). وساد عليهم الموت كملك (رومية 14:5) لأن تعديهم الوصية أعادهم إلى حالتهم الطبيعية، حتى أنهم كما نشأوا من العدم. كذلك يجب أن لا يتوقعوا إلا الفساد الذي يؤدي الى العدم مع توالي الزمن.
5- لأنهم ان كانوا بحضور الكلمة وتعطفه قد دعوا الى الوجود من الحالة الطبيعية الأولى، وهي عد الوجود فانهم بطبيعة الحال متى تجردوا من معرفة الله عادوا الى العدم (2) لأن كل ما هو فهو عدم وكل ما هو خير فهو كائن وموجود. ويجب أن تكون النتيجة بطبيعة الحال الحرمان الى الأبد من الوجود. طالما كانوا يستمدون وجودهم من الله الموجود. وبتعبير آخر يجب أن تكون النتيجة الانحلال وبالتالي البقاء في حالة الموت والفساد.
6- لأن الأنسان إذ خلق من العدم فانه بطبيعته , على أنه بفضل خلقته على صورة الله الكائن، كان ممكنا أن ينجو من الفساد الطبيعي, ويبقى في عدم فساد لو أنه احتفظ بتلك الصورة بابقاء الله في معرفته. وكما تقول الحكمة ( حفظ شرائعه تحقيق عدم البلى (الخلود) , ولكنه إذ كان في عدم فساد. كان ممكنا أن يعيش كالله في ذلك الوقت. والى هذا يشير الكتاب المقدس على الأرجح عندما يقول : أنا قلت أنكم آلهة وبنو العلي كلكم. لكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون مزمور 82 : 6-7
الحواشي
(1) أنظر الرسالة الى الوثنيين (فصل 3-5
(2) والى ما لا وجود له. ولعل أثناسيوس يقصد العدم جسديا
الفصل الخامس
1- لأن الله لم يكتف بأن خلقنا من العدم ولكنه أيضا وهبنا مجانا بنعمة الكلمة، حياة منسجمة مع الله. ولكن البشر إذ رفضوا الأمور الأبدية وتحولوا الى الأمور الفاسدة بمشورة الشيطان، صاروا سببا لفساد أنفسهم بالموت، لأنهم - كما ذكرت سابقا- بالطبيعة فاسدون تعينوا للخلاص من حالتهم الطبيعية بنعمة اشتراكهم في الكلمة ان استمروا صالحين.
2- ولأن " الكلمة" حل معهم، فحتى فسادهم الطبيعي لم يجسر أن يقترب منهم، كما تقول الحكمة أيضا " لأن الله خلق الإنسان في عدم ابلي (1) وصنعه على صورته ازليته، لكن الموت دخل الى العالم (2) بسبب ابليس" وعندما تم ذلك بدأ البشر يموتون، وساد عليهم الفساد من ذلك الوقت فصاعدا، وصار له سلطان على كل الجنس البشري أكثر من سلطانه الطبيعي، لأنه أتى نتيجة تهديد الله في حال عصيان الوصية.
3- لأن البشر لم يقفوا عند حد معين حتى في سوء أفعالهم, بل تدرجوا في الشر حتى تخطوا كل الحدود، وأصبحوا يخترعون الشر ويتفننون فيه الى أن جلبوا على أنفسهم الموت والفساد، وبعد ذلك إذ توغلوا في الرذيلة، ولم يقفوا عند شر واحد، بل راحوا يخترعون كل جديد من الشر، فقد أصبحت طبيعتهم مشبعة بالخطية
4- فها هي خطايا الزنى والسرقةقد عمت كل مكان. وامتلأت كل الارض بخطايا القتل والنهب, واصبح البشر لا يراعون حرمة للناموس , بل صاروا يرتكبو الجرائم في كل مكان، سواء كأفرادأو كجماعات، فالمدن اشتبكت في الحروب مع المدن، والأمم قامت ضد الأمم، وصار كل انسان يتنافس مع أترابه في الأعمال القبيحة.
5- وأصبحوا لا يترفعون حتى عن الجرائم التي ضد الطبيعة كما يقول عنهم رسول المسيحية وشاهده: " لأن اناثهم استبدلن الاستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة، وكذلك الذكور أيضا تاركين استعمال الانثى الطبيعي اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكورا بذكور ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق(رومية 1: 26و 27)
الحواشي
1- أو خالدا حسب ترجمة اليسوعيين
2- حكمة 2: 23و 24
الفصل السادس
اذن فقد كان الجنس البشري سائرا الى الفناء, وكانت صورة الله فيه سائرة الى الإضمحلال, وتلف عمله. ولهذا كان أمام الله أحد أمرين. اما أن يتنازل عن كلمته التي نطق بها، والتي جلب بها الإنسان على نفسه الخراب. أو أن يهلك الإنسان الذي شارك الكلمة. وفي هذه الحالة يفشل قصد الله فماذا إذن؟ أيحتمل صلاح الله هذا؟ وان كان الأمر كذلك فلماذا خلق الإنسان؟ لو ان هذا حدث لدل على ضعف الله لا على صلاحه
1- اذن فمن أجل هذا ساد الموت البشر وعمهم الفساد، وكان الجنس البشري سائرا نحو الهلاك، وكان الإنسان العاقل الذي خلق على صورة الله آخذا في الاختفاء, وكانت صنعة الله آخذة في الانحلال.
2- لأن الموت، كما قلت سابقا، صارت له سيادة شرعية علينا 0تكوين 2: 25) منذ ذلك الوقت، وكان مستحيلا أن ينقض الناموس، لأن الله هو الذي وضعه بسبب التعدي (غلاطية 3: 19) وأصبحت النتيجة في الحال مرعبة حقا وغير لائقة.
3- لأنه (أولا) كان أمرا مرعبا لو أن الله بعدما تكلم يصير كاذبا ان كان بعد أن أصدر حكمه على الإنسان بأن يموت موتا ان تعدى الوصية لا يموت، بل تبطل كلمة الله، ولو كان الإنسان لم يمت بعد أن قال الله أننا نموت، لأصبح الله غير صادق.
4- (ثانيا) وكان أيضا أمرا غير لائق أن الخليقة التي خلقت عاقلة، والتي شاركت الكلمة. يصير مصيرها الهلاك، وترجع الى عدم والوجود بالفساد.
5- لأنه مما لا يتفق مع صلاح الله أن تفنى خليقته بسبب الغواية التي أدخلها الشيطان على البشر.
6- وبصفة خاصة كان غير لائق على الأطلاق أن تتلاشى صنعة الله بين البشر. اما بسبب اهمالهم، أو بسبب غواية الأرواح الشريرة
7- ولو كان مصير الخليقة العاقلة قد بات الى الهلاك، وصار مآل هذه المصنوعات الى الفناء، فما الذي يفعله الله في صلاحه اذن؟ أيحتمل بأن يرى الفساد يسود البشر. والموت ينشب أظافره فيهم؟ وما الفائدة من خلقتهم منذ البدء؟ لأنه خيرا لهم لو لم يخلقهم من أن يخلقوا ثم يهملون ويفنون.
8- لأن الاهمال لا يعلن صلاح الله بل ضعفه، ان كان يسمح لخلقة يديه بالفناء بعد أن خلقها، وكان بالأحرى يتبين ضعفه لو لم يكن قد خلق الإنسان على الاطلاق.
9- لأنه لو لم يكن قد خلق جنس البشر لما تجاسر انسان أن ينسب اليه الضعف، أما وقد خلقه، وخلقه من العدم، فقد كان يعد أمرا مشينا جدا أن يفنى المخلوق على مرأى من الخالق.
10- لهذا أصبح أمرا محتما ألا يترك الإنسان لتيار الفساد، لأن ذلك يعتبر عملا غير لائق، ولا يتفق مع صلاح الله
الفصل السابع
على أننا من الجهة الأخرى نعلم أن طبيعة الله ثابتة, ولا يمكن أن نضحي من أجلنا, أيدعي البشر إذن التوبة؟ لكن التوبة لا تستطيع أن تحول دون تنفيذ الحكم, كما أنها في الوقت نفسه لا تستطيع أن تداوي الطبيعة البشرية الساقطة. فنحن قد جلبنا الفساد على أنفسنا ونحتاج لاعادتنا الى نعمة صورة الله , ولا يستطيع أحد أن يجدد الخلق الا الخالق فهو وحده الذي يستطيع (1) أن يخلق الجميع من جديد (2) أن يتألم من أجل الجميع (3) أن يقدم الجميع الى الآب.
1- وان كنا قد وصلنا الى هذه النتيجة فاننا من الناحية الأخرى نجد مطالب الله العادلة. تصطدم بها، إذ يجب أن يكون الله أمينا وصادقا من جهة حكم الموت الذي وضعه. لأنه كم يكون شنيعا جدا لو كان الله أبو الحق يظهر كاذبا من أجلنا نجاتنا؟
2- ومرة أخرى نقول : أي طريق كان ممكنا أن يسلكه الله ؟ أيطلب من البشر التوبة عن تعدياتهم ؟ وهذا قد يرى لائقا بالله- لعله كما ورثوا الفساد بسبب التعدي ينالون عدم الفساد بسبب التوبة.
3- ولكن التوبة (أولا) لا تستطيع أن توفى مطلب الله العادل لأنه ان لم يظل الإنسان في قبضة الموت يكون الله غير صادق (ثانيا) تعجز عن أن تغير طبيعة الإنسان، لأن كل ماتفعله هو أنها تقف حائلا بينه وبين ارتكاب الخطية.
4- ولو كان الأمر مجرد خطأ بسيط ارتكبه الإنسان، ولم يتبعه الفساد، فقد تكون التوبة كافية. أما وقد علمنا أن الإنسان بمجرد التعدي انحرف في تيار الفساد, الذي كان طبيعة له. وحرم من تلك النعمة التي سبق أن أعطيت له, وهي مماثلة لصورة الله, فما هي الخطوة التالية التي يستلزمها الأمر؟ أو من الذي كان يستطيع أن يعيد اليه تلك النعمة. ويرده الى حالته الأولى. الا كلمة الله الذي خلق كل شئ من العدم في البدء؟
5- لهذا كان أمام كلمة الله مرة أخرى أن يأتي بالفاسد الى عدم فساد، وفي نفس الوقت أن يوفي مطلب الآب العادل. المطالب به الجميع, وحيث أنه هو كلمة الآب ويفوق الكل، فكان هو وحده الذي يليق بطبيعته أن يجدد خلقة كل شئ, وأن يتحمل الآلام عوضا عن الجميع, وأن يكون نائبا (1) عن الجميع لدى الآب.
الحواشي
(1) أو شفيعا، أو سفيرا كبعض الترجمات.
الفصل الثامن
لهذا افتقد كلمة الله الأرض التي كان حاضرا فيها دوما، ورأى كل هذه الشرور؛ ثم أخذ جسدا من طبيعتنا من عذراء طاهرة عفيفة حل في أحشاءها, وذلك لكي يعلن نفسه فيه، ويقهر الموت, ويعيد الحياة.
1- لأجل ذلك جاء الى عالمنا كلمة الله, الخالي من الجسد، والعديم الفساد، وغير المادي مع أنه لم يكن عنا ببعيد (1). لأنه لم يترك شيئا من البرايا خلوا منه، إذ هو يملأ كل شئ في كل مكان, وفي نفس الوقت هو كائن مع أبيه, ولكنه تنازل وأتي الينا لكي يعلن شفقته علينا ويفتقدنا.
2- وإذ رأى جنس الخليقة العاقلة في طريق الهلاك, وأن الموت يسودهم بالفساد، وإذ رأى أيضا أن التهديد بالموت في حالة التعدي, قد مكن الفساد من طبيعتنا، وأنه لأمر شنيع أن ينحل الناموس قبل أن يتم , وإذ رأى أيضا عدم لياقة الأمر الراهن, وهو أن خليقته التي خلقتها يداه في طريق الفناء, وإذ رأى فوق هذا شر البشر المستطير , وأنهم يتزايدون فيه شيئا فشيئا, حتى أشرفوا على هوة سحيقة, وإذ رأى أخيرا أن كل البشر تحت قصاص الموت – لهذا أشفق على جنسنا, وترفق بضعفنا, ورثى لفسادنا. وإذ عن جسدنا لم يحتمل أن يرى الموت تصير له السيادة, لئلا تفنى به الخليقة, وتذهب صنعة أبيه في البشر هباء, وقد أخذ لنفسه جسدا لا يختلف.
3- لأنه لم يفكر في مجرد التجسد, أو مجرد الظهور(2) وإلا فلو أنه أراد مجرد الظهور لاستطاع أن يتمم ظهوره الالهي بطريقة أسمى وأفضل. ولكنه أخذ جسدا من جنسنا وليس ذلك فحسب, بل من عذراء طاهرة بلا لوم لم تعرف رجلا، جسدا طاهرا وخاليا بالحق من زرع بشري, لأنه وهو القادر على كل شئ, وبارئ كل شئ, أعد الجسد في العذراء كهيكل لها, وجعله جسده بالذات واتخذه أداه له وفيه أعلن ذاته, وفيه حل.
4- وهكذا إذ أخذ من أجسادنا جسدا مماثلا لطبيعتنا، وإذ كان الجميع تحت قصاص فساد الموت، فقد بذل جسده للموت عوضا عن الجميع, وقدمه للآب. كل هذا فعله شفقة منه علينا, وذلك (أولا) لكي يبطل الناموس الذي كان يقضي بهلاك البشر, إذ مات الكل فيه، لأن سلطانه قد أكمل في جسد الرب ولا يعود ينشب أظفاره في البشرالذين ناب عنهم. (ثانيا) لكي يعيد البشر الى عدم الفساد بعد أن عادوا الى الفساد، ويحييهم من الموت بجسده وبنعمة القيامة, وينقذهم من الموت(3) كانقاذ القش (4) من النار.
الحواشي
1- أعمال الرسل 17: 27
2- انظر فصل 7:43
3- الترجمة الأصح : ويبيد الموت عنهم
4- أو ( القصب) كبعض الترجمات، والمعنى أن الناس هم القش، والموت هو النار
الفصل التاسع
وإذ لم يكن ممكنا أن يوقف الوباء الا بالموت أخذ الكلمة جسدا قابلا للموت, واذ اتحد الجسد به أصبح نائبا عن الكل. وباشتراكه في عدم موته أوقف فساد الجنس البشري. وبكونه أسمى من الكل. جعل جسده ذبيحة لأجلنا. وبكونه واحدا معنا كلنا ألبسنا عدم الموت.
1- وإذ رأى الكلمة أن فساد البشرية لا يمكن أن يبطل الا بالموت كشرط لازم, وأنه مستحيل أن يتحمل الكلمة الموت لأنه غير مائت ولأنه ابن الآب. لهذا أخذ لنفسه جسدا قابلا للموت. حتى باتحاده بالكلمة, الذي هو فوق الكل، يكون جديرا أن يموت نيابة عن الكل, وحتى يبقى في عدم فساد بسبب الكلمة الذي أتى ليحل فيه وحتى يتحرر الجميع من الفساد، فيما بعد، بنعمة القيامة من الأموات. وإذ قدم للموت ذلك الجسد الذي أخذه لنفسه كمحرقة وذبيحة خالية من كل شائبة فقد رفع حكم الموت فورا عن جميع من ناب عنهم, إذ قدم عوضا عنهم جسدا مماثلا لأجسادهم.
2- ولأن كلمة الله متعال فوق الكل، فقد لاق به بطبيعة الحال أن يوفي الدين بموته وذلك بتقديم هيكله وآنيته البشرية لأجل حياة الجميع (أو فداء عن الجميع) وإذ اتحد ابن الله عديم الفساد بالجميع بطبيعة مماثلة، فقد ألبس الجميع عدم الفساد بطبيعة الحال، بوعد القيامة من الأموات. لأنه لم يعد ممكنا أن ينشب فساد الموت الفعلي أظافره في البشر، وذلك بسبب " الكلمة الذي جاء وحل بينهم بجسده الواحد.
3- وكما أنه لو دخل ملك عظيم مدينة عظيمة (1) واتخذ اقامته في أحد بيوتها، فان هذه المدينة تتشح بالشرف الرفيع، ولا يعود عدو أو لص ينزل اليها لإخضاعها, بل على العكس تعتبر مستحقة لكل عناية. لأن الملك اتخذ مقره في بيت واحد من بيوتها، كذلك كانت الحال مع ملك الكل.
4- فإنه إذ أتى الى عالمنا، واتخذ اقامته في جسد واحد بين أترابه فقد بطلت كل مؤامرة العدو ضد الجنس البشري منذ ذلك الحين، وزال عنهم فساد الموت الذي كان سائدا عليهم من قبل لأنه لو لم يكن الرب مخلص الجميع، ابن الله، قد جاء الينا وحل بيننا ليوفي غاية الموت (2) لكان الجنس البشري قد هلك.
الحواشي
(1) لعله يشير الى ما كان يحدث عند زيارة الأباطرة للبلاد. وقد تشرفت القسطنطينية بعد ذلك سنة 326 بزيارة الملك العظيم قسطنطين لها واقامته فيها
(2) او ليضع حدا للموت.
الفصل العاشر
إيضاح معقولة الفداء بتشبيه آخر. كيف أزال المسيح عنا هلاكنا, وقدم لنا في تعاليمه الدواء الشافي من سمومه. البراهين الكتابية لتجسد الكلمة، وللذبيحة التي قدمها.
1- حقا لقد كان هذ1 العمل العظيم متفقا مع وجود الله بشكل عجيب لأنه اذا أسس ملك منزلا أو مدينة وأحدق بها اللصوص بسبب اهمال سكانها، فانه لا يهملها أو يتغاضى عنها بأي حال, بل يقوم ويهتم وينتقم من العابثين بها لأنها صنعة يديه غير مبال باهمال سكانها، بل بما يليق بذاته، وهكذا الله، كلمة الآب الكلي الصلاح, ولم يهمل الجنس البشري صنعة يديه, ولم يتركه للفساد، بل أبطل الموت بتقديم جسده، وعالج اهمالهم بتعاليمه، ورد بسلطانه كل ما كان للانسان.
2- وهذه كلها يمكن للمرء أن يتحققها من كتبة الانجيل. الذين كتبوا بالهام الروح القدس، إذ اطلع على كتاباتهم التي فيها يقولون " لأن محبة المسيح تحصرنا اذ نحن نحسب هذا أنه ان كان واحد قد مات لأجل الجميع فالجميع إذا ماتوا. وهو مات لأجل الجميع كي لا نعيش فيما بعد لأنفسنا بل للذي مات لأجلنا وقام 2كو 5: 14و 15 ربنا يسوع المسيح. أيضا " ولكن الذي وضع قليلا عن الملائكة يسوع نراه مكللا بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد عبرانيين 2: 9
3- بعد ذلك يبين في الآية التالية لماذا لم يكن ممكنا لأحد آخر سوى الله " الكلمة" نفسه أن يتجسد : لآته لاق بذاك الذي من أجله الكل , وبه الكل وهو آت بأبناء كثيرين إلي المجد. أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام عبرانيين 2: 10 وهو بهذه الكلمات يقصد أن يبين أنه لم يكن مستطاعا لأحد آخر أن يرد البشر من الفساد الذي بدا غير كلمة الله الذي خلقهم أيضا من البدء
4- ولا مكان تقديم ذبيحة عن الأجساد أخذ الكلمة جسدا مشابها. والى هذا يشيرون أيضا في الكلمات التالية " " فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضا فيهما لكي يبيد بالموت ذات الذي له سلطان الموت أي ابليس ويعتق الذي خوفا من الموت كانواجميعا كل حياتهم تحت العبودية " العبرانيين 2: 14و 15
5- لأنه بذبيحة جسده وضع حدا لحكم الموت الذي كان قائما ضدنا , ووضع لنا بداية جديدة للحياة برجاء القيامة من الأموات الذي أعطاه لنا لأنه إن كان بإنسان قد ساد الموت على البشر لهذا السبب أيضا بطل الموت, وتمت قيامة الحياة بتأنس كلمة الله, كما كخاضعين للدينونة بل يقول ذلك الإنسان الذي حمل سمات المسيح (غلاطية 17:6 ) " فإنه إذ الموت بإنسان، بإنسان أيضا قيامة الأموات لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع(1كو 15: 21و22) وهكذا نحن الآن لا نموت بعد كاناس يقومون من الموت ننتظر القيامة العامة للجميع, التي سيبينها في أوقاتها الله. الذي أتممها, والذي وهبنا إياها (1تيموثاوس 15:6)
6- إذن فهذا هو السبب الأول الذي من أجله تأنس المخلص. على أننا سنرى أيضا من الأسباب الأخرى التالية أن مجيئه المبارك بيننا كان لابد أن يتم.
الفصل الحادي عشر
سبب آخر للتجسد. إذ عرف الله أن الإنسان بطبيعته لم يكن في مقدوره معرفته لكي يستطيع أن يجد فائدة من وجوده في الحياة, لقد خلقه على صورة الكلمة حتى يستطيع بذلك أن يعرف الكلمة.
وبه يعرف الأب , أما هو فإذ احتقر هذه المعرفة هوى إلى العبادة الوثنية, تاركا الله غير المنظور واتبع السحر والشعوذة وذلك كله رغم إعلانات الله المتعددة عن نفسه.
1- وعندما خلق الله الضابط الكل الجنس البشري بكلمته, ورأى ضعف طبيعتهم, وأنها لا تستطيع من نفسها أن تعرف خالقها، أو تكون آيه فكرة عن الله على الإطلاق، لأنه بينما هو ( أي الله) غير مخلوق فقد خلقت الكائنات من العدم، وبينما هو روح لا جسد له فقد خلق البشر، بطريقة أدنى، في الجسد، ولأن المخلوقات لم تستطع بأي حال أن تدرك وتعرف خالقها- لهذا تحنن الله على الجنس البشري على قدر صلاحه، ولم يتركهم خالين من معرفته، لئلا يروا أن لا منفعة على الإطلاق من وجودهم في الحياة.
2- لأنه آيه منفعة للمخلوقات أن لم تعرف خالقها؟ أو كيف يمكن أن تكون عاقلة بدون معرفة كلمة ( وفكر) الآب الذي أوجدهم في الحياة؟ لأنه أن كانت كل معلوماتهم محصورة في الأمور الأرضية فلا شئ يميزهم عن البهائم العديمة النطق. نعم ولماذا خلقهم الله لو كان لا يريدهم أن يعرفوه؟
3- وتفاديا لهذا أعطاهم الله بصلاحه نصيبا من صورته- ربنا يسوع المسيح- وخلقهم على صورته ومثاله، حتى إذا ما رأوا تلك الصورة أي كلمة الآب، استطاعوا أن يكونوا، استطاعوا أن يكونوا فكرة عن الآب، وإذا ما عرفوا خالقهم عاشوا الحياة الحقيقية السعيدة المباركة.
4- ولكن البشر في ضلالهم وتمردهم إذا تهاونوا- رغم كل هذا - بالنعمة التي أعطيت لهم، تركوا الله كليا، واظلمت أنفسهم، لا بمجرد فكرتهم عن الله، بل أيضا باختراعاتهم الكثيرة التي اخترعوها لأنفسهم الواحد تلو الآخر- لأنهم لم يكتفوا بأن يصوروا لأنفسهم التماثيل بدل الحق، ويكرموا المخلوقات - التي لم تكن من قبل- دون الله الحي- ويعبدوا المخلوق دون الخالق( رومية 1: 25، بل والأسوأ من الكل، حولوا مجد الله إلى الخشب والحجارة، والى كل الأشياء المادية والى الإنسان، بل ذهبوا إلى أبعد من هذا كما بيننا في الرسالة السابقة.
5- ولقد بلغ بهم الفجور أنهم تقدموا لعبادة الشياطين، ونادوا بها آلهة، متممين بذلك شهواتهم، فانهم كما ذكرنا آنفا قدموا محرقات من الحيوانات العديمة النطق، وذبائح من البشر كما يلائمهم، منحدرين بخطوات سريعة وراء نزعاتهم الجنونية.
6- من أجل هذا كثر بينهم تعليم فنون السحر، وأضلت العرافة البشر في أماكن متعددة, وأصبح كل البشر ينسبون سبب ميلادهم، بل وجودهم إلى الكواكب وكل الأجرام السماوية، إذ لم يفكروا إلا في المنظور.
بالاختصار لقد أصبح كل شئ مشبعا بروح الكفر والاستباحة، وصار الله وحده وكلمته غير معروف رغم أنه لم يخف نفسه من نظر البشر ولا أعلن نفسه بطريقة واحدة فقط, بل على العكس أعلن نفسه لهم بأشكال منوعة وطرق عدة.
الفصل الثاني عشر
ومع أن الانسان خلق في النعمة, الا أن الله إذ سبق فعلم ميله النسيان، أعد أعمال الخليقة لتذكرة بشخصه. والأكثر من ذلك أنه أعد الناموس والأنبياء الذين قصد بخدمتهم أن تكون لكل العالم ولكن البشر لم يلتفتوا الا لشهواتهم.
1- لأنه وان كانت نعمة مماثلة الصورة الالهية كافية في حد ذاتها معرفة الله الكلمة، ومعرفة الأب به، الا أن الله، العارف ضعف البشر، أعد علاجا شافيا لإهمالهم، حتى إذا كانوا لا يعنون بمعرفة الله من تلقاء أنفسهم، استطاعوا بواسطة المخلوقات أن يتجنبوا الجهل بالخالق ( أو أن يعرفوا الخالق)
2- واذ تسفل اهمال البشر قليلا فقليلا الى السفليات، أعد الله مرة أخرى علاجا لضعفهم هذا، بارسال ناموس وأنبياء، رجال معروفين لديهم، حتى إذا ما تغافلوا عن أن يتطلعوا الى السماء ليعرفوا خالقهم، استطاعوا أن يتعلموا ممن يعيشون بينهم، لأن البشر يستطيعون أن يتعلموا من البشر بسهولة أكثر من السماوات
3- وهكذا كان في استطاعتهم، إذا ما تطلعوا الى السماء وأدركوا جمال الخليقة وتناسقها، أن يعرفوا مدبرها - كلمة الآب- الذي يعرف الأب للجميع بسلطانه على كل الأشياء والذي يحرك الأشياء لهذه الغاية عينها حتى يستطيع الجميع أن يعرفوا الله.
4- أو - ان لم يكن ذلك في مقدورهم - كان ممكنا لهم أن يلتقوا على الأقل بالقديسين، وبواستطتهم يعرفون الله جابل كل الأشياء، أبا المسيح ويعرفون أن عبادة الأوثان كفر بالله، ومملوءة من كل فساد
5- أو كان يسيرا عليهم أن يعيشوا حياة فاضلة خالية من كل رجس وفساد لو عرفوا الناموس. لأن الناموس لم يعط لليهود فقط. ولا أرسل الأنبياء الى اليهود فقط، الا أنهم كانوا قد أرسلوا الي اليهود واضطهدوا من اليهود، الا أنهم كانوا بمثابة مدرسة مقدسة لكل العالم لتعليم طريق معرفة الله وارشاد النفس.
6- ورغما عن عظمة جود الله ورحمته فقد خدع البشر بالملذات العابرة والغوايات والاغراءات التي أرسلتها الأرواح الشريرة، ولم يقاوموا الحق فقط، بل ثقلوا نير أنفسهم بالشرور والخطايا، فلم يعودوا يظهرون بعد كخليقة عاقلة، بل دلت طرقهم على أنه مجردون من العقل.
الفصل الثالث عشر
وهنا أيضا أكان ممكنا لله أن يسكت وأن يترك للآلهة الكاذبة تلك العبادة التي أمرنا بتقديمها اليه؟ أن الملك إذا عصيته الرعية يذهب اليهم بنفسه بعد أن يرسل اليهم الرسائل. فكم بالأحرى يعيد فينا الله نعمة مماثلة صورته. هذا ما لم يستطع البشر أن يتممواه لأنهم ان هم الا نموزج. لهذا كان لزاما أن يأتي " الكلمة نفسه ليجدد الخليقة وأيضا ليبيد الموت في الجسد
1- وإذ صار البشر مثل البهائم، وسادت غواية الشيطان كل مكان حتى حجبت معرفة الاله الحقيقي، فما الذي كان يفعله الله؟ أيسكت أمام هذا الأمر الجسيم، ويدع البشر يضلون بتأثير الأرواح الشريرة، ولا يعرفون الله؟
2- ما هي الفائدة من خلقة الانسان أصلا على صورة الله؟ كان خيرا له لو أنه خلق على صورة البهائم العديمة النطق من أن يخلق عاقلا ناطقا ثم يعيش بعد ذلك كالبهائم
3- وهل كانت هنالك ضرورة مطلقا أن يعطي الإنسان فكرة عن الله في بداية الأمر؟ لأنه أن كان حتى الآن غير مستعد أن ينالها فكان الأولى لأن لا تعطى له من البداية.
4- وماذا ينتفع الله الذي خلقهم وكيف يتمجد ان كان البشر الذين خلقهم لا يعبدونه، بل يتوهمون أن بعض الخلائق الأخرى هي التي خلقتهم؟ لأنه بهذا يبرهن الله أنه قد خلقهم لا لنفسه بل للآخرين.
5- ومرة أخرى نسوق هذا التشبيه : أن أي ملك من ملوك الأرض – وهو مجرد انسان بشري- إذا امتلك بلادا لا يتركها لآخرين لكي تخدمهم، ولا يتنازل عنها لغيره، ولكنه ينذر أهلها برسائله، ثم يتصل بهم بواسطة الأصدقاء مرارا، وإذا اقتضى الأمر يذهب اليهم بشخصه كآخر وسيلة يلجأ اليها لتوبيخهم – كل ذلك لكي لا يخدموا آخرين فيذهب عمله هباء منثورا.
6- أفلا يشفق الله بالأولى على خليقته كي لا تضل عنه وتعبد الأشياء الباطلة التي لا وجود لها، مادام تبين أن ضلالهمقد سبب تلفهم وخرابهم، ولم يكن لائقا أن يهلك أولئك الذين كانوا وقتا ما شركاء في صورة الله.
7- اذن فما الذي كان ممكنا أن يفعله الله؟ وماذا كان ممكن أن يتم سوى تجديد تلك الخليقة التي كانت في صورة الله وبذلك يستطيع البشر مرة أخرى أن يعرفوه؟ ولكن كيف كان ممكنا أن يتم هذا الا بحضور نفس صورة الله – ربنا يسوع المسيح؟ كان ذلك مستحيلا أن يتم بواسطة البشر لأنهم لم يخلقوا على صورة الله – لهذا أتى كلمة الله بشخصه لكي يستطيع – وهو صورة الآب – أن يجدد خلقة الانسان على مثال تلك الصورة
8- ثم أن ذلك لم يكن ممكنا ان يتم أيضا دون القضاء على الموت والفساد
9- ولذلك كان واثقا بطبيعة الحال أن يأخذ جسدا قابلا للموت حتى اذا ما أباد الموت فيه نهائيا أمكن تجديد البشر الذين خلقوا على صورته. اذن لم يكن كفؤا لهذه الحاجة الا كلمة الآب
الفصل الرابع عشر
ان فسد الرسم وجبت إعادته من الوصرة الأصلية, وهكذا أتى أبن الآب لكي يطلب ويخلص ويجدد الحياة ولم تكن هنالك طريقة أخرى ممكنة لأن الانسان إذ طمس بصيرته بنفسه، لم يستطع أن يبصر لكي يشفي وشهادة الخليقة فشلت عن تحفظه أو ترده عن ضلاله أما الكلمة فهو وحده الذي استطاع أن يتمم هذا ولكن كيف؟ ليس الا بإعلان نفسه كإنسان..
1- وإن تلطخت الصورة المرسومة على الخشب بالأدران من الخارج وأزيلت، فلابد فلابد من حضور صاحب الصورة نفسه ثانية لكي يساعد الرسام على تجديد الصورة على نفس اللوحة الخشبية لأنه اكراما لصورته يعز عليه أن يلقي بتلك اللوحة, وهي مجرد قطعة خشبية بل يجدد عليها الرسم.
2- وعلى هذا المثال عينه أتى الى عالمنا ابن الآب الكلي القداسة اذ هو صورة الآب، لكي يجدد خلقة الانسان الذي خلق مرة على صورته – ويجده كضال بمغفرة الخطايا، كما يقول هو نفسه في الإنجيل : " أني جئت لكي أطلب وأخلص الضال (لوقا 19: 10) ومن أجل هذا قال أيضا لليهود : " أن كان أحد لا يولد ثانية" ( يوحنا 3: 3و5) وهو لا يقصد بهذا – كما ظنوا – الولادة من امرأة، وإنما قصد التحدث عن إعادة ميلاد النفس، وتجديد خلقتها على مثال صورة الله.
3- ولكن إن كانت العبادة وثنية والمعتقدات الألحادية قد سادت العالم، وان كانت معرفة الله قد أخفيت، فمن ذا الذي كان يقوم بتعليم العالم عن الآب؟ أن قال أحد أن هذه هي مأمورية الانسان أجبناه أنه لم يكن في مقدور الانسان أن يجتاز الى كل مكان تحت الشمس، لأنه ليست لديه القوة الجسدية التي تمكنه من أن يركض بهذه السرعة، ولا هو يستطيع أن يدعي المقدرة على القيام بهذا الأمر، ولا هو يستطيع من تلقاء نفسه – مقاومة غواية الأرواح الشريرة وحيلها.
4- لأنه إذا انحرف الجميع في تيار غواية الشيطان وأباطيل الأوثان فكيف كان ممكنا لهم أن يربحوا نفس الانسان وعقلهوهم عاجزون حتى عن رؤية النفس والعقل، وكيف يتاح لشخص أن يجدد ما لم يبصره.
5- ولعل أحد يقول أن الخلقة كانت كافية. ولكن لو كانت الخلقة كافية لما حدثت كل هذه الشرور الجسيمة مطلقا، لأن الخلقة كانت موجودة فعلا، وكان البشر لا يزالون يتخبطون في نفس الضلالة عن الله
6- فالى من أذن كانت تدعو الحاجة الا لكلمة الله الذي يبصر النفس والعقل، والمحرك لكل ما في الخليقة وبها يجعل معرفة الآب ظاهرة لأن كان بعلم البشر عن الآب بأعمال عنايته وبتدبيره لكل الأشياء، هو الذي يستطيع أن يجدد ذلك التعليم عينه
7- وكيف كان ممكنا أن يتم هذا؟ رب امرئ يقول أنه كان أي بأعمال الخليقة ولكن هذه لم تعد وسيلة مضمونة بل بالعكس أن البشر سابقا رفضوا أن يبصروها، ولم يعودوا يشخصون بأبصارهم الى فوق بل الى أسفل.
8- لهذا اذ ابتغى منفعة البشر كان طبيعيا أن يأتي الينا كإنسان آخذا لنفسه جسدا كسائر البشر، ليعلمهم من الأمور الأرضية – أي بأعمال جسده- حتى يستطيع من لا يدرون أن يعرفوه من أعمال عنايته وسلطانه على كل الأشياء أن يبصروا الأعمال التي عملها بجسده الفعلي، ويعرفون كلمة الله الحال في الجسد، وفيه يعرفون الآب.
الفصل الخامس عشر
وإذ رأي " الكلمة" أن البشر حصروا في الأمور الجسدية تنازل الى مستوى تفكيرهم وأخذ جسدا والتقى بأحساساتهم في منتصف الطريق. وسواء اتجهت ميولهم الى عبادة الطبيعة أو البشر, أو الأرواح الشريرة، او الموتى فقد أظهر نفسه ربا على كل هؤلاء.
1- وكما أن المعلم الصالح – الذي يعني بتلاميذه- يتنازل الى مستواهم، أن رأى البعض منهم لم يستفيدوا بالعلوم التي تسمو فوق ادراكهم، ويقدم اليهم تعاليم أبسط، هكذا فعل كلمة الله كما يقول بولس أيضا ( إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف بحكمته استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة (1كو21:1)
2- لأنه إذ رأى أن البشر رفضوا التأمل في الله، وانحطت نظراتهم الى أسفل كأنهم قد غاصوا في العمق، باحثين عن الله في الطبيعة وفي عالم الحسيات، ومخترعين لأنفسهم آلهة من البشر الق5ابلين للفناء ومن الجن – لهذا فان مخلص الكل محب، كلمة الله أخذ لنفسه جسدا وكإنسان مشى بين الناس، وقابل احساسات البشر في منتصف الطريق وحتى يستطيع من يتخيلون الله هيوليا (1) أن يدركوا الحق بما يعلنه الرب في جسده، ويدركوا الآب فيه.
3- وهذا لأن البشر هم بشر، ولأن كل أفكارهم أصبحت بشرية ففي كل الأمور التي ركزوا فيها احساساتهم وجدوا أنفسهم قوبلوا في منتصف الطريق وعلموا الحق من كل ناحية.
4- فإن نظروا الى الخليقة بدهشة ورهبة رأوهاتعترف بالمسيح ربا وان اتجهت عقولهم نحو البشر ليتوهموا أنهم آلهة وجدوا أن أعمال المخلص – ان قارنوا بأعمال البشر- قد أظهرته وحده ابن الله دون سائر البشر، لأنه لم يقم بينهم قط من استطاع أن يأتي الأعمال التي عملها كلمة الله.
5- وا انحرفوا الى الأرواح الشريرة وجب أن يدركوا بعد أن رأوا الكلمة يطردها، أنه وحده هو الله، وأن تلك الأرواح لا شئ.
6- وان انحدرت عقولهم فوصلت الى الأموات حتى عبدوا الأبطال والآلهة التي تحدث عنها الشعراء، وجب بعد أن رأوا قيامة المخلص، أن يعترفوا أن تلك آلهة كاذبة، وأن الرب وحده هو الاله الحق.. كلمة الآب، وهو رب الموت أيضا.
7- لهذا السبب ولد وظهر كإنسان، ومات، وقام ثانية بعد أن غطى بأعماله كل أعمال البشر الذين سبقوه، حتى إذا ما اتجهت أفكار البشر الى أية ناحية استطاع أن يستردهم من هذه الناحية ويعلمهم عن أبيه الحقيقي، كما يقول عن نفسه : " أنا قد جئت لكي أطلب وأخلص ما قد هلك لوقا 10:19
الحواشي
(1) أي ذا جسد
الفصل السادس عشر
إذا فقد جاء لكي يجذب أنظار البشر الحسية اليه كإنسان وبذلك يقودهم لكي يعرفوه كإله.
1- لأنه إذا انحط فكر البشر نهائيا إلى الأمور الحسية فقد توارى الكلمة بظهوره في الجسد، لكي يستطيع كإنسان أن ينقل البشر الى ذاته, ويركز إحساساتهم في شخصه وإذ يتطلع اليه البشر كإنسان, فإنه يقنعهم بالأعمال التي عملها أنه ليس مجرد إنسان بل هو اله أيضا، وكلمة الله الحق وحكمته.
2- وهذا أيضا ما قصد أن يشير اليه "بولس" أذ يقول " وأنتم متأصلون ومتأسسون في المحبة حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين وما هو الطول والعرض والعمق والعلو وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة لكي تمتلئوا الى كل ملء الله (أفسس 3: 17-19).
3- لأن كل الأشياء امتلأت من معرفة الله بإعلان (الكلمة) نفسه في كل ناحية – فوق وتحت- في العمق والعرض. أما فوق ففي الخليقة وتحت في التأنس, وفي العمق بنزوله الى الجحيم، وفي العرض أي في العالم، لقد امتلأت كل الأشياء من معرفة الله.
4- ولهذا السبب أيضا فإنه لم يتمم ذبيحته عن الكل بمجرد مجيئه مباشرة بتقديم جسده للموت وإقامته ثانية، لأنه لو فعل ذلك لجعل ذاته غير ظاهرة، ولكن صبر نفسه ظاهرا جدا بالأعمال التي صنعها وهو في الجسد. بهذه الأعمال التي عملها والعلامات التي أظهرها، لم يعد معروفا بعد كإنسان، بل كالله (الكلمة).
5- لأن المخلص بتأنسه تمم عمليتي المحبة (أولا) برفع الموت عنا وتجديدنا ثانيا (ثانيا) باعلان نفسه وتعريف ذاته بأعماله بأنه كلمة الآب، مدبر وملك الكون، إذ كان غير ظاهر ولا منظور.
# تقديم للقمص مرقس داود:
عندما شرعت في مراجعة هذا الكتاب لم أكن أتوقع كل هذه الكنوز اللاهوتية، فقد لقب أثناسيوس الرسولي بحق أنه "حامي الإيمان" ولعل أهم ما يقوله أثناسيوس عن المسيح يتلخص فيما يلي:
" هذا هو الذي صلب أمام الشمس وكل الخليقة كشهود، وأمام من أسلموه إلى الموت. وبموته صار الخلاص للجميع، والفداء لكل الخليقة، هو حياة الجميع، الذي سلم جسده إلى الموت نيابة عن الجميع، ولأجل الجميع، ولو لم يؤمن اليهود بذلك (فصل 37: 7) فليس بأحد غيره الخلاص.
أما ما يقوله أثناسيوس لليونانيين فأهمه هو قوله : إن الفلاسفة اليونانيين (وخاصة أفلاطون) يقول أن الكون جسم (أو جسد) هائل، وهذا حق لأننا نراه، ونرى أجزاءه واقعة تحت حواسنا، فإن كان كلمة الله في الكون الذي هو جسم وان كان قد اتحد بكل الكون وبكل أجزائه، فما هو وجه الغرابة أو السخف إن قلنا إنه اتحد بالإنسان أيضا؟ (فصل 41: 5) ويضيف كذلك:
" إنه لو كان حلوله في جسد أمرا سخيفا وغير معقول، لكان أمرا سخيفا أيضا أن يتحد بكل الكون، ويعطي ضياء وحركة لكل الأشياء بعنايته، لأن الكون أيضا جسد. أما إن كان قد لاق به أن يتحد بالموت، وأن يعرف في الكل، وجب أن يليق به أيضا أن يظهر في جسد بشري، وأن يستضئ به ذلك الجسد ويعمل، لأن البشرية جزء من الكل كسائر الأجزاء. ولو كان آمرا غير لائق أن يتخذ جزءا كأداة يعلم البشر بها عن لاهوته، لكان أمرا في غاية السخف أن يعرف بواسطة كل الكون أيضا فصل 41: 6و7
المسيح كلمة الله الحي باسمه تخرج الشياطين وان كانت الشياطين تعترف به، وأعماله تشهد له يوما فيوما، فقد اتضح جليا – ويجب أن لا يتصلف أحد نحو الحق- أن المخلص أقام جسده، وأنه هو ابن الله الحقيقي المولود منه وأنه هو كلمته وحكمته وقوته، الذي في الأزمنة الأخيرة اتخذ جسدا لخلاص الجميع، وعلم العالم عن الله (الأب) وأبطل الموت ووهب الكل عدم الفساد بموعد القيامة إذ أقام جسده كباكورة لذلك، وأظهر بعلامة الصليب كعلامة للظفر على الموت وفساده (فصل 32: 6) " فلقد بسط المسيح يده على الصليب الذي وهو روح لا جسد له ظهر في الجسد (اتخذ جسدا) من أجلنا وتألم عن الجميع (فصل 38: 2) فليس اسم آخر تحت
" عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد"
تفرد المسيح بأنه كلمة الله الأزلي المتجسد. لماذا؟!!! لم يكن ممكنا أن يتأله الإنسان ليتصل بالله. فالله بنفسه اختار طوعا أن يتجسد.
الله الكلمة اتخذ جسدا
ففي المسيح حل كل ملء اللاهوت جسديا.
الله نور لا يدنى منه، والمسيح هو صورة الله غير المنظور.
الله محبة، والمسيح هو تجسد محبة الله لكل البشر وقد أظهر الله محبته في الصليب فتم الفداء وفتحت أبواب الخلود لمن يقبل عمل الله في المسيح لأجل خلاص نفسه.
الفصل الأول
"مقدمة هذه الرسالة اتضاع وتجسد الكلمة. افتراض عقيدة الخليقة وذلك بواسطة الكلمة. لقد خلص الآب العالم بذاك الذي به خلقه أولا"
1- إذا اقتصرنا في بحثنا السابق على القليل من الأقوال الكثيرة مما يكفي لبيان ضلالة الأمم (1) بصدد الأوثان وعبادة الأوثان، وكيفية اختراعها في بداية الأمر، وكيف كانت شرور البشر هي الباعث على تفكيرهم في عبادة الأوثان، وبعد أن عرفنا بنعمة الله أيضا شيئا عن لاهوت كلمة الآب وعنايته الشاملة وسلطانه، وكيف أن الآب الصالح ينظم كل الأشياء بالكلمة، وأن به تتحرك كل الكائنات وبه تحيا- تعال الآن أيها العزيز مكاريوس (2) يا خليقا بهذا الاسم ويا محبا للمسيح بالحق ولنتتبع إيماننا المسيحي(3) ولنظهر كل ما يتعلق بتأنس الكلمة وظهوره الإلهي بيننا، الأمر الذي يسخر منه اليهود، ويهزأ به اليونانيون، وأما نحن فنعظمه ونبجله، وذلك حتى تزداد وتتضاعف تقواك نحو الكلمة على قدر ضعف مظهره
2- فانه كلما ازداد استهزاء غير المؤمنين بالكلمة، ازدادت الشهادة التي يعطيها عن لاهوته. لأن ما يعتقده البشر مستحيلا يثبته الله ممكنا وسهلا وليس ذلك وحسب بل أن ما يسخرون منه ويعتقدونه غبير لائق يلبسه بصلاحه ثوب اللياقة والجمال، وما يهزأون به بغرورهم وادعائهم الحكمة، ويتوهمونه بشريا، يظهره هو بسلطانه الهيا وفي ذلك كله نتغلب على الادعاءات والافتراءات الوثنية بما يظنه العالم ضعفا، أي بصليبه ويقنع بطريقة خفية أولئك الهازئين وغير المؤمنين، ليدركوا لاهوته وسلطانه.
3- ولعلاج هذا الموضوع أراه لزاما على أن ألخص ما سبق أن قررته (4) حتى لا تفوتك معرفة سبب ظهور كلمة الآب الجليل القدر في الجسد، وحتى لا تتوهم أنه كان من مستلزمات طبيعة مخلصنا أن يلبس جسدا، بل لكونه خاليا من الجسد بطبيعته، ولأنه هو الكلمة منذ الأزل قد ارتضى بتحنن أبيه وصلاحه - أن يظهر لنا جسد بشري لخلاصنا.
4- إذن فيليق بنا أن نبدأ بحث هذا الموضوع بالتحدث عن خلقة الكون وعن الله بارئه، وعندئذ يمكننا أن ندرك أن تجديد الخليقة كان من عمل نفس الكلمة الذي خلقها في البداية. إذ سوف يتضح أنه لم يكن أمرا مخالفا أن يتمم الله خلاص العالم بذاك الذي خلقه به أولا.
الحواشي
(1) أي الوثنيين (2) له كتاب آخر بعنوان الرسالة إلي الوثنيين ف 1. قد يكون هذا الاسم مستعملا هنا رمزيي فقط. (3) أنظر 1تيموثاوس 3: 16 (4) في الرسالة السابقة
الفصل الثاني
دحض بعض الآراء الخاطئة عن عملية الخلقة
(1) مذهب الأبيكوريين، وهو القائل بأن الخلق مصادفة، لكن تعدد الأجسام والأجزاء يستلزم وجود قوة خالقة
(2) مذهب الأفلاطونيين، وهو القائل بوجود المادة من قبل، وهذا يخضع الله للحدود البشرية، ويجعله لا خالقا بل صانعا ميكانيكيا.
(3) مذهب اللاأدريين أو الأغنسطيين، وهو القائل بوجود خالق آخر وهذا يشجبه الكتاب المقدس.
1- لقد نحا الكثيرون مناحي مختلفة في صدد صنع الكون وخلق جميع الأشياء، ووضع كل منهم المبدأ الذي يتفق وأهواءه. فالبعض توهم أن كل الأشياء وجدت من تلقاء ذاتها وبمجرد الصدفة، كالأبيكوريين مثلا {1} الذين يدعون بغرورهم أن لا وجود لتلك العناية التي تهيمن على الكل، وهم في ذلك يناقضون الحق الواضح والاختبار الملوس.
2- فلو صح زعمهم بأن كل شئ وجد من نفسه، خلواً من آيه غاية لننتج من هذا أن جميع الأشياء لابد أن تكون قد خلقت بطريقة واحدة في حال واحدة – متشابهة وغير متميزة عن بعضها. وبالتالي كان يجب من جهة اتحاد الجسم أن يكون الكل شمسا أو قمرا. وفي حالة الإنسان كان يجب أن يكون الكل عينا أو يدا أو رجلا. الحال غير هذا بل العكس أننا نرى تمييزا في الخليقة. فنرى الشمس والقمر والأرض. وفي الأجساد البشرية نرى الرجل واليد والرأس. فهذا التمييز يدل على أنه قد تقدمتها علة، ومن هذه العلة نستطيع أن ندرك الله كخالق وباعث للكل.
3- والبعض الآخر – وضمنهم أفلاطون {2} الذي ذاعت شهرته بين اليونانيين – يزعمون أن الله صنع العالم من مادة موجودة من قبل لا بداية لوجودها{3}، لأنه لم يكن ممكنا لله {4} أن يصنع شيئا ما لم تكن مادة الخشب متوفرة بين يديه.
4- على أنهم بقولهم هذا لا يدركون أنهم ينسبون الضعف لله لأنه لو لم يكن هو باعث المادة، بل يصنع الأشياء من المادة الموجودة من قبل، فهذا معناه أنه ضعيف، لأنه إذ ذاك لا يستطيع إيجاد شئ بدون توفر المادة لديه، كما أنه لا شك يعتبر ضعفا من النجار أن لا يستطيع صنع أي شئ يحتاجه دون توفر الخشب لديه. لأنه يترتب على هذا الزعم أنه لو لم تكن المادة قد توفرت لدى الله لما كان قد صنع شيئا. وكيف يسوغ لنا في هذه الحالة أن ندعوه خالقا وبارئا إن كان يدين بقدرته على الخلق لمصدر آخر, أي المادة؟ فلو كان الأمر كذلك لكان الله حسب رأيهم صانعا ميكانيكيا، ليس خالقا من العدم. مادام يصنع الأشياء من المادة المتوفرة لديه دون أن يكون هو الباعث للمادة، لأنه لا يمكن بأي حال أن يدعى خالقا ما لم يكن هو الخالق للمادة التي منها صنعت جميع المخلوقات بدورها.
5- وأما المبتدعون فيتوهمون لأنفسهم خالقا آخر لكل الأشياء. غير أبي ربنا يسوع، وهم بذلك يبرهنون على منتهى العمى. لا يرون حتى نفس الألفاظ التي يستعملونها.
6- لأنه إن كان الرب قد قال لليهود " أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا وأنثى وقال من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدا واحدا" ثم قال أيضا مشيرا إلي الخالق " فالذي جمع الله لا يفرقه إنسان{5}، فكيف يسوغ لأولئك القوم أن يدعوا بأن عملية الخلق لا تنسب إلى الآب؟ أو حسب تعبير "يوحنا" الذي يتحدث عن جميع الكائنات بلا استثناء أن كل شئ به كان وبغيره لم يكن شئ مما كان {6} فكيف يمكن أن يكون الخالق شخصية أخرى غير الآب؟
الحواشي
{1} هم أتباع أبيكورس الفيلسوف الوثني الذي ولد سنة 341 ومات سنة 270 ق.م
{2} أحد فلاسفة اليونان أيضا عاش من سنة 427 الى سنة 347 ق.م
{3} أو غير مخلوقة كبعض الترجمات
{4} حسب ادعائهم
{5} متى 19: 4-6
{6} يوحنا 3:1
الفصل الثالث
العقيدة السليمة خلقة الكائنات من العدم لسبب فرط جود الله وكرمه. خلقة الإنسان أعلى من سائر الكائنات ولكن دون أن تكون له المقدرة على البقاء مستقلا عن غيره. العطية السامية الممتازة التي منحت اليه أن يكون على صورة الله ومثاله، مع وعده بالسعادة بشرط استمراره في النعمة.
(1) وهكذا نراهم يتخبطون في أوهامهم وترهاتهم. أما التعليم الالهي والايمان بالمسيح، فانهما يدمغان أقوالهم الغبية بوصمة عار، ويظهران أنها كفر والحاد. لأنه معلوم أن الكائنات لم تخلق من تلقاء ذاتها، فان خلقها يستلزم وجود فكر سابق. كما أنها لم تخلق من مادة موجودة من قبل. لأن الله ليس ضعيفا. ولكن الله خلق الكون من العدم، ومن غير سبق وجوده مطلقا، بكلمته. كما يقول (أولا) على لسان "موسى" في البدء خلق الله السموات والأرض" {1} وثاينا في الكتاب الباني جدا الذي يسمى الراعي {2} وقبل كل شئ اؤمن بأن الله واحد. الذي خلق وصور كل الأشياء, وأوجدها من العدم
(2) والى هذا يشير أيضا بولس إذ يقول : " بالإيمان نفهم أن العالمين أتقنت بكلمة الله، حتى لم يتكون ما يرى مما هو ظاهر {3}
(3) لأن الله صالح. أو بالحري هو بالضرورة مصدر الصلاح. والصالح لا يمكن أن يبخل بأي شئ. لذلك فانه إذ لا يضن بنعمة الوجود على أي شئ. خلق كل الأشياء من العدم بكلمته – يسوع المسيح ربنا. وفضلا عن ذلك فانه إذ أشفق بصفة خاصة على الجنس البشري دون سائر المخلوقات على الأرض، وإذ رأى ضعفه بطبيعة تكوينه عن أن يبق في حال واحدة, منحه نعمة أخرى، فانه لم يكتف بمجرد خلقته للإنسان، كما خلق باقي المخلوقات غير العاقلة على الأرض. بل خلقه على صورته ومثاله، أعطاه نصيبا حتى في قوة "كلمته". لكي يستطيع وله نوع من ظل الكلمة، وقد خلق عاقلا، أن يبق في السعادة أبداً، ويحيا الحياة الحقيقية حياة القديسين في الفردوس.
(4) ولكن لعلمه أيضا أن أراد’ الانسان يمكن أن تميل الى احدى الجهتين (أي الخير والشر) سبق فدعم النعمة المعطاة له، بالوصية التي قدمها اليه، والمكان الذي أقامه فيه، لأنه أتى به الى جنته، وأعطاه وصية، حتى إذا حفظ النعمة, واستمر صالحا، استطاع الاحتفاظ بحياته في الفردوس بلا حزن ولا ألم ولا هم، فضلا عن موعد عدم الفساد في السماء. أما إذا تعدى الوصية وارتد وأصبح شريرا فيعلم بأنه يجلب على نفسه الفساد بالموت الذي يستحقه بالطبيعة، وأنه لا يستحق الحياة في الفردوس بعد، بل يطرد منه من ذلك الوقت , ولكي يموت ويبقى في الموت والفساد.
(5) وهذا يحذر منه الكتاب المقدس قائلا بفم الله " من جميع شجر الجنة تأكل أكلا. أما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها. لأنك يوم تأكل منها موتا تموت{4}. وماذا يعني بقوله موتا تموت. ليس المقصود مجرد الموت فقط. بل أيضا البقاء الى الأبد في فساد الموت
الحواشي
{1} تكوين 1:1 {2} لمؤلفه "هرماس" أحد مؤلفي الجيل الأول للمسيح {3} عبرانيين 4:11 {4} تكوين 2: 16و 17
الفصل الرابع
اتصال خلقتنا والتجسد الإلهي أحدهما بالآخر اتصالا وثيقا. وكما خلق الإنسان بكلمة الله من العدم إلى الوجود ثم نا نعمة إلهية، كذلك بخطية واحدة خسر تلك الحياة. وجلب على نفسه الفساد. وملأت الخطية والشقاء العالم.
1- قد تدهش وتتساءل عن السبب في هذا البحث عن أصل البشرية طالما كان القصد من هذه السرالة التحدث عن تجسد الكلمة. ولكن اعلم أن هذا البحث أيضا يتصل بالغرض من هذه الرسالة.
2- لأننا عند التحدث عن ظهور المخلص بيننا. يتحتم علينا التحدث عن أصل البشر. ولكي تعلم أن نزوله إلينا كان بسببنا, وان عصياننا استدعى تعطف الكلمة لكي يسرع الرب في اغاثتناوالظهور بين البشر.
3- لأن اغاثتنا كانت هي الغرض من تجسده. ولأجل خلاصنا أظهر محبته العظمى إلى حد أن يظهر ويولد في جسد بشري.
4- فالله إذ خلق الإنسان، وقصد أن يبقى في عدم فساد. أما البشر فأذ احتقروا ورفضوا التأمل في الله، واخترعوا ودبروا الشر لأنفسهم، كما تقدم بحثه في الرسالة السالفة (1) فقد استحقواحكم الموتالذي سبق تهديدهم به. ومن ذلك الحين لم يبقوا بعد في الصورة التي خلقوا عليها. بل فسدوا حسبما أرادوا لأنفسهم(سفر الجامعة الإصحاح 7 وعدد 29 مع رسالة رومية الإصحاح الأول الأعداد 21و22). وساد عليهم الموت كملك (رومية 14:5) لأن تعديهم الوصية أعادهم إلى حالتهم الطبيعية، حتى أنهم كما نشأوا من العدم. كذلك يجب أن لا يتوقعوا إلا الفساد الذي يؤدي الى العدم مع توالي الزمن.
5- لأنهم ان كانوا بحضور الكلمة وتعطفه قد دعوا الى الوجود من الحالة الطبيعية الأولى، وهي عد الوجود فانهم بطبيعة الحال متى تجردوا من معرفة الله عادوا الى العدم (2) لأن كل ما هو فهو عدم وكل ما هو خير فهو كائن وموجود. ويجب أن تكون النتيجة بطبيعة الحال الحرمان الى الأبد من الوجود. طالما كانوا يستمدون وجودهم من الله الموجود. وبتعبير آخر يجب أن تكون النتيجة الانحلال وبالتالي البقاء في حالة الموت والفساد.
6- لأن الأنسان إذ خلق من العدم فانه بطبيعته , على أنه بفضل خلقته على صورة الله الكائن، كان ممكنا أن ينجو من الفساد الطبيعي, ويبقى في عدم فساد لو أنه احتفظ بتلك الصورة بابقاء الله في معرفته. وكما تقول الحكمة ( حفظ شرائعه تحقيق عدم البلى (الخلود) , ولكنه إذ كان في عدم فساد. كان ممكنا أن يعيش كالله في ذلك الوقت. والى هذا يشير الكتاب المقدس على الأرجح عندما يقول : أنا قلت أنكم آلهة وبنو العلي كلكم. لكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون مزمور 82 : 6-7
الحواشي
(1) أنظر الرسالة الى الوثنيين (فصل 3-5
(2) والى ما لا وجود له. ولعل أثناسيوس يقصد العدم جسديا
الفصل الخامس
1- لأن الله لم يكتف بأن خلقنا من العدم ولكنه أيضا وهبنا مجانا بنعمة الكلمة، حياة منسجمة مع الله. ولكن البشر إذ رفضوا الأمور الأبدية وتحولوا الى الأمور الفاسدة بمشورة الشيطان، صاروا سببا لفساد أنفسهم بالموت، لأنهم - كما ذكرت سابقا- بالطبيعة فاسدون تعينوا للخلاص من حالتهم الطبيعية بنعمة اشتراكهم في الكلمة ان استمروا صالحين.
2- ولأن " الكلمة" حل معهم، فحتى فسادهم الطبيعي لم يجسر أن يقترب منهم، كما تقول الحكمة أيضا " لأن الله خلق الإنسان في عدم ابلي (1) وصنعه على صورته ازليته، لكن الموت دخل الى العالم (2) بسبب ابليس" وعندما تم ذلك بدأ البشر يموتون، وساد عليهم الفساد من ذلك الوقت فصاعدا، وصار له سلطان على كل الجنس البشري أكثر من سلطانه الطبيعي، لأنه أتى نتيجة تهديد الله في حال عصيان الوصية.
3- لأن البشر لم يقفوا عند حد معين حتى في سوء أفعالهم, بل تدرجوا في الشر حتى تخطوا كل الحدود، وأصبحوا يخترعون الشر ويتفننون فيه الى أن جلبوا على أنفسهم الموت والفساد، وبعد ذلك إذ توغلوا في الرذيلة، ولم يقفوا عند شر واحد، بل راحوا يخترعون كل جديد من الشر، فقد أصبحت طبيعتهم مشبعة بالخطية
4- فها هي خطايا الزنى والسرقةقد عمت كل مكان. وامتلأت كل الارض بخطايا القتل والنهب, واصبح البشر لا يراعون حرمة للناموس , بل صاروا يرتكبو الجرائم في كل مكان، سواء كأفرادأو كجماعات، فالمدن اشتبكت في الحروب مع المدن، والأمم قامت ضد الأمم، وصار كل انسان يتنافس مع أترابه في الأعمال القبيحة.
5- وأصبحوا لا يترفعون حتى عن الجرائم التي ضد الطبيعة كما يقول عنهم رسول المسيحية وشاهده: " لأن اناثهم استبدلن الاستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة، وكذلك الذكور أيضا تاركين استعمال الانثى الطبيعي اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكورا بذكور ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق(رومية 1: 26و 27)
الحواشي
1- أو خالدا حسب ترجمة اليسوعيين
2- حكمة 2: 23و 24
الفصل السادس
اذن فقد كان الجنس البشري سائرا الى الفناء, وكانت صورة الله فيه سائرة الى الإضمحلال, وتلف عمله. ولهذا كان أمام الله أحد أمرين. اما أن يتنازل عن كلمته التي نطق بها، والتي جلب بها الإنسان على نفسه الخراب. أو أن يهلك الإنسان الذي شارك الكلمة. وفي هذه الحالة يفشل قصد الله فماذا إذن؟ أيحتمل صلاح الله هذا؟ وان كان الأمر كذلك فلماذا خلق الإنسان؟ لو ان هذا حدث لدل على ضعف الله لا على صلاحه
1- اذن فمن أجل هذا ساد الموت البشر وعمهم الفساد، وكان الجنس البشري سائرا نحو الهلاك، وكان الإنسان العاقل الذي خلق على صورة الله آخذا في الاختفاء, وكانت صنعة الله آخذة في الانحلال.
2- لأن الموت، كما قلت سابقا، صارت له سيادة شرعية علينا 0تكوين 2: 25) منذ ذلك الوقت، وكان مستحيلا أن ينقض الناموس، لأن الله هو الذي وضعه بسبب التعدي (غلاطية 3: 19) وأصبحت النتيجة في الحال مرعبة حقا وغير لائقة.
3- لأنه (أولا) كان أمرا مرعبا لو أن الله بعدما تكلم يصير كاذبا ان كان بعد أن أصدر حكمه على الإنسان بأن يموت موتا ان تعدى الوصية لا يموت، بل تبطل كلمة الله، ولو كان الإنسان لم يمت بعد أن قال الله أننا نموت، لأصبح الله غير صادق.
4- (ثانيا) وكان أيضا أمرا غير لائق أن الخليقة التي خلقت عاقلة، والتي شاركت الكلمة. يصير مصيرها الهلاك، وترجع الى عدم والوجود بالفساد.
5- لأنه مما لا يتفق مع صلاح الله أن تفنى خليقته بسبب الغواية التي أدخلها الشيطان على البشر.
6- وبصفة خاصة كان غير لائق على الأطلاق أن تتلاشى صنعة الله بين البشر. اما بسبب اهمالهم، أو بسبب غواية الأرواح الشريرة
7- ولو كان مصير الخليقة العاقلة قد بات الى الهلاك، وصار مآل هذه المصنوعات الى الفناء، فما الذي يفعله الله في صلاحه اذن؟ أيحتمل بأن يرى الفساد يسود البشر. والموت ينشب أظافره فيهم؟ وما الفائدة من خلقتهم منذ البدء؟ لأنه خيرا لهم لو لم يخلقهم من أن يخلقوا ثم يهملون ويفنون.
8- لأن الاهمال لا يعلن صلاح الله بل ضعفه، ان كان يسمح لخلقة يديه بالفناء بعد أن خلقها، وكان بالأحرى يتبين ضعفه لو لم يكن قد خلق الإنسان على الاطلاق.
9- لأنه لو لم يكن قد خلق جنس البشر لما تجاسر انسان أن ينسب اليه الضعف، أما وقد خلقه، وخلقه من العدم، فقد كان يعد أمرا مشينا جدا أن يفنى المخلوق على مرأى من الخالق.
10- لهذا أصبح أمرا محتما ألا يترك الإنسان لتيار الفساد، لأن ذلك يعتبر عملا غير لائق، ولا يتفق مع صلاح الله
الفصل السابع
على أننا من الجهة الأخرى نعلم أن طبيعة الله ثابتة, ولا يمكن أن نضحي من أجلنا, أيدعي البشر إذن التوبة؟ لكن التوبة لا تستطيع أن تحول دون تنفيذ الحكم, كما أنها في الوقت نفسه لا تستطيع أن تداوي الطبيعة البشرية الساقطة. فنحن قد جلبنا الفساد على أنفسنا ونحتاج لاعادتنا الى نعمة صورة الله , ولا يستطيع أحد أن يجدد الخلق الا الخالق فهو وحده الذي يستطيع (1) أن يخلق الجميع من جديد (2) أن يتألم من أجل الجميع (3) أن يقدم الجميع الى الآب.
1- وان كنا قد وصلنا الى هذه النتيجة فاننا من الناحية الأخرى نجد مطالب الله العادلة. تصطدم بها، إذ يجب أن يكون الله أمينا وصادقا من جهة حكم الموت الذي وضعه. لأنه كم يكون شنيعا جدا لو كان الله أبو الحق يظهر كاذبا من أجلنا نجاتنا؟
2- ومرة أخرى نقول : أي طريق كان ممكنا أن يسلكه الله ؟ أيطلب من البشر التوبة عن تعدياتهم ؟ وهذا قد يرى لائقا بالله- لعله كما ورثوا الفساد بسبب التعدي ينالون عدم الفساد بسبب التوبة.
3- ولكن التوبة (أولا) لا تستطيع أن توفى مطلب الله العادل لأنه ان لم يظل الإنسان في قبضة الموت يكون الله غير صادق (ثانيا) تعجز عن أن تغير طبيعة الإنسان، لأن كل ماتفعله هو أنها تقف حائلا بينه وبين ارتكاب الخطية.
4- ولو كان الأمر مجرد خطأ بسيط ارتكبه الإنسان، ولم يتبعه الفساد، فقد تكون التوبة كافية. أما وقد علمنا أن الإنسان بمجرد التعدي انحرف في تيار الفساد, الذي كان طبيعة له. وحرم من تلك النعمة التي سبق أن أعطيت له, وهي مماثلة لصورة الله, فما هي الخطوة التالية التي يستلزمها الأمر؟ أو من الذي كان يستطيع أن يعيد اليه تلك النعمة. ويرده الى حالته الأولى. الا كلمة الله الذي خلق كل شئ من العدم في البدء؟
5- لهذا كان أمام كلمة الله مرة أخرى أن يأتي بالفاسد الى عدم فساد، وفي نفس الوقت أن يوفي مطلب الآب العادل. المطالب به الجميع, وحيث أنه هو كلمة الآب ويفوق الكل، فكان هو وحده الذي يليق بطبيعته أن يجدد خلقة كل شئ, وأن يتحمل الآلام عوضا عن الجميع, وأن يكون نائبا (1) عن الجميع لدى الآب.
الحواشي
(1) أو شفيعا، أو سفيرا كبعض الترجمات.
الفصل الثامن
لهذا افتقد كلمة الله الأرض التي كان حاضرا فيها دوما، ورأى كل هذه الشرور؛ ثم أخذ جسدا من طبيعتنا من عذراء طاهرة عفيفة حل في أحشاءها, وذلك لكي يعلن نفسه فيه، ويقهر الموت, ويعيد الحياة.
1- لأجل ذلك جاء الى عالمنا كلمة الله, الخالي من الجسد، والعديم الفساد، وغير المادي مع أنه لم يكن عنا ببعيد (1). لأنه لم يترك شيئا من البرايا خلوا منه، إذ هو يملأ كل شئ في كل مكان, وفي نفس الوقت هو كائن مع أبيه, ولكنه تنازل وأتي الينا لكي يعلن شفقته علينا ويفتقدنا.
2- وإذ رأى جنس الخليقة العاقلة في طريق الهلاك, وأن الموت يسودهم بالفساد، وإذ رأى أيضا أن التهديد بالموت في حالة التعدي, قد مكن الفساد من طبيعتنا، وأنه لأمر شنيع أن ينحل الناموس قبل أن يتم , وإذ رأى أيضا عدم لياقة الأمر الراهن, وهو أن خليقته التي خلقتها يداه في طريق الفناء, وإذ رأى فوق هذا شر البشر المستطير , وأنهم يتزايدون فيه شيئا فشيئا, حتى أشرفوا على هوة سحيقة, وإذ رأى أخيرا أن كل البشر تحت قصاص الموت – لهذا أشفق على جنسنا, وترفق بضعفنا, ورثى لفسادنا. وإذ عن جسدنا لم يحتمل أن يرى الموت تصير له السيادة, لئلا تفنى به الخليقة, وتذهب صنعة أبيه في البشر هباء, وقد أخذ لنفسه جسدا لا يختلف.
3- لأنه لم يفكر في مجرد التجسد, أو مجرد الظهور(2) وإلا فلو أنه أراد مجرد الظهور لاستطاع أن يتمم ظهوره الالهي بطريقة أسمى وأفضل. ولكنه أخذ جسدا من جنسنا وليس ذلك فحسب, بل من عذراء طاهرة بلا لوم لم تعرف رجلا، جسدا طاهرا وخاليا بالحق من زرع بشري, لأنه وهو القادر على كل شئ, وبارئ كل شئ, أعد الجسد في العذراء كهيكل لها, وجعله جسده بالذات واتخذه أداه له وفيه أعلن ذاته, وفيه حل.
4- وهكذا إذ أخذ من أجسادنا جسدا مماثلا لطبيعتنا، وإذ كان الجميع تحت قصاص فساد الموت، فقد بذل جسده للموت عوضا عن الجميع, وقدمه للآب. كل هذا فعله شفقة منه علينا, وذلك (أولا) لكي يبطل الناموس الذي كان يقضي بهلاك البشر, إذ مات الكل فيه، لأن سلطانه قد أكمل في جسد الرب ولا يعود ينشب أظفاره في البشرالذين ناب عنهم. (ثانيا) لكي يعيد البشر الى عدم الفساد بعد أن عادوا الى الفساد، ويحييهم من الموت بجسده وبنعمة القيامة, وينقذهم من الموت(3) كانقاذ القش (4) من النار.
الحواشي
1- أعمال الرسل 17: 27
2- انظر فصل 7:43
3- الترجمة الأصح : ويبيد الموت عنهم
4- أو ( القصب) كبعض الترجمات، والمعنى أن الناس هم القش، والموت هو النار
الفصل التاسع
وإذ لم يكن ممكنا أن يوقف الوباء الا بالموت أخذ الكلمة جسدا قابلا للموت, واذ اتحد الجسد به أصبح نائبا عن الكل. وباشتراكه في عدم موته أوقف فساد الجنس البشري. وبكونه أسمى من الكل. جعل جسده ذبيحة لأجلنا. وبكونه واحدا معنا كلنا ألبسنا عدم الموت.
1- وإذ رأى الكلمة أن فساد البشرية لا يمكن أن يبطل الا بالموت كشرط لازم, وأنه مستحيل أن يتحمل الكلمة الموت لأنه غير مائت ولأنه ابن الآب. لهذا أخذ لنفسه جسدا قابلا للموت. حتى باتحاده بالكلمة, الذي هو فوق الكل، يكون جديرا أن يموت نيابة عن الكل, وحتى يبقى في عدم فساد بسبب الكلمة الذي أتى ليحل فيه وحتى يتحرر الجميع من الفساد، فيما بعد، بنعمة القيامة من الأموات. وإذ قدم للموت ذلك الجسد الذي أخذه لنفسه كمحرقة وذبيحة خالية من كل شائبة فقد رفع حكم الموت فورا عن جميع من ناب عنهم, إذ قدم عوضا عنهم جسدا مماثلا لأجسادهم.
2- ولأن كلمة الله متعال فوق الكل، فقد لاق به بطبيعة الحال أن يوفي الدين بموته وذلك بتقديم هيكله وآنيته البشرية لأجل حياة الجميع (أو فداء عن الجميع) وإذ اتحد ابن الله عديم الفساد بالجميع بطبيعة مماثلة، فقد ألبس الجميع عدم الفساد بطبيعة الحال، بوعد القيامة من الأموات. لأنه لم يعد ممكنا أن ينشب فساد الموت الفعلي أظافره في البشر، وذلك بسبب " الكلمة الذي جاء وحل بينهم بجسده الواحد.
3- وكما أنه لو دخل ملك عظيم مدينة عظيمة (1) واتخذ اقامته في أحد بيوتها، فان هذه المدينة تتشح بالشرف الرفيع، ولا يعود عدو أو لص ينزل اليها لإخضاعها, بل على العكس تعتبر مستحقة لكل عناية. لأن الملك اتخذ مقره في بيت واحد من بيوتها، كذلك كانت الحال مع ملك الكل.
4- فإنه إذ أتى الى عالمنا، واتخذ اقامته في جسد واحد بين أترابه فقد بطلت كل مؤامرة العدو ضد الجنس البشري منذ ذلك الحين، وزال عنهم فساد الموت الذي كان سائدا عليهم من قبل لأنه لو لم يكن الرب مخلص الجميع، ابن الله، قد جاء الينا وحل بيننا ليوفي غاية الموت (2) لكان الجنس البشري قد هلك.
الحواشي
(1) لعله يشير الى ما كان يحدث عند زيارة الأباطرة للبلاد. وقد تشرفت القسطنطينية بعد ذلك سنة 326 بزيارة الملك العظيم قسطنطين لها واقامته فيها
(2) او ليضع حدا للموت.
الفصل العاشر
إيضاح معقولة الفداء بتشبيه آخر. كيف أزال المسيح عنا هلاكنا, وقدم لنا في تعاليمه الدواء الشافي من سمومه. البراهين الكتابية لتجسد الكلمة، وللذبيحة التي قدمها.
1- حقا لقد كان هذ1 العمل العظيم متفقا مع وجود الله بشكل عجيب لأنه اذا أسس ملك منزلا أو مدينة وأحدق بها اللصوص بسبب اهمال سكانها، فانه لا يهملها أو يتغاضى عنها بأي حال, بل يقوم ويهتم وينتقم من العابثين بها لأنها صنعة يديه غير مبال باهمال سكانها، بل بما يليق بذاته، وهكذا الله، كلمة الآب الكلي الصلاح, ولم يهمل الجنس البشري صنعة يديه, ولم يتركه للفساد، بل أبطل الموت بتقديم جسده، وعالج اهمالهم بتعاليمه، ورد بسلطانه كل ما كان للانسان.
2- وهذه كلها يمكن للمرء أن يتحققها من كتبة الانجيل. الذين كتبوا بالهام الروح القدس، إذ اطلع على كتاباتهم التي فيها يقولون " لأن محبة المسيح تحصرنا اذ نحن نحسب هذا أنه ان كان واحد قد مات لأجل الجميع فالجميع إذا ماتوا. وهو مات لأجل الجميع كي لا نعيش فيما بعد لأنفسنا بل للذي مات لأجلنا وقام 2كو 5: 14و 15 ربنا يسوع المسيح. أيضا " ولكن الذي وضع قليلا عن الملائكة يسوع نراه مكللا بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد عبرانيين 2: 9
3- بعد ذلك يبين في الآية التالية لماذا لم يكن ممكنا لأحد آخر سوى الله " الكلمة" نفسه أن يتجسد : لآته لاق بذاك الذي من أجله الكل , وبه الكل وهو آت بأبناء كثيرين إلي المجد. أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام عبرانيين 2: 10 وهو بهذه الكلمات يقصد أن يبين أنه لم يكن مستطاعا لأحد آخر أن يرد البشر من الفساد الذي بدا غير كلمة الله الذي خلقهم أيضا من البدء
4- ولا مكان تقديم ذبيحة عن الأجساد أخذ الكلمة جسدا مشابها. والى هذا يشيرون أيضا في الكلمات التالية " " فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضا فيهما لكي يبيد بالموت ذات الذي له سلطان الموت أي ابليس ويعتق الذي خوفا من الموت كانواجميعا كل حياتهم تحت العبودية " العبرانيين 2: 14و 15
5- لأنه بذبيحة جسده وضع حدا لحكم الموت الذي كان قائما ضدنا , ووضع لنا بداية جديدة للحياة برجاء القيامة من الأموات الذي أعطاه لنا لأنه إن كان بإنسان قد ساد الموت على البشر لهذا السبب أيضا بطل الموت, وتمت قيامة الحياة بتأنس كلمة الله, كما كخاضعين للدينونة بل يقول ذلك الإنسان الذي حمل سمات المسيح (غلاطية 17:6 ) " فإنه إذ الموت بإنسان، بإنسان أيضا قيامة الأموات لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع(1كو 15: 21و22) وهكذا نحن الآن لا نموت بعد كاناس يقومون من الموت ننتظر القيامة العامة للجميع, التي سيبينها في أوقاتها الله. الذي أتممها, والذي وهبنا إياها (1تيموثاوس 15:6)
6- إذن فهذا هو السبب الأول الذي من أجله تأنس المخلص. على أننا سنرى أيضا من الأسباب الأخرى التالية أن مجيئه المبارك بيننا كان لابد أن يتم.
الفصل الحادي عشر
سبب آخر للتجسد. إذ عرف الله أن الإنسان بطبيعته لم يكن في مقدوره معرفته لكي يستطيع أن يجد فائدة من وجوده في الحياة, لقد خلقه على صورة الكلمة حتى يستطيع بذلك أن يعرف الكلمة.
وبه يعرف الأب , أما هو فإذ احتقر هذه المعرفة هوى إلى العبادة الوثنية, تاركا الله غير المنظور واتبع السحر والشعوذة وذلك كله رغم إعلانات الله المتعددة عن نفسه.
1- وعندما خلق الله الضابط الكل الجنس البشري بكلمته, ورأى ضعف طبيعتهم, وأنها لا تستطيع من نفسها أن تعرف خالقها، أو تكون آيه فكرة عن الله على الإطلاق، لأنه بينما هو ( أي الله) غير مخلوق فقد خلقت الكائنات من العدم، وبينما هو روح لا جسد له فقد خلق البشر، بطريقة أدنى، في الجسد، ولأن المخلوقات لم تستطع بأي حال أن تدرك وتعرف خالقها- لهذا تحنن الله على الجنس البشري على قدر صلاحه، ولم يتركهم خالين من معرفته، لئلا يروا أن لا منفعة على الإطلاق من وجودهم في الحياة.
2- لأنه آيه منفعة للمخلوقات أن لم تعرف خالقها؟ أو كيف يمكن أن تكون عاقلة بدون معرفة كلمة ( وفكر) الآب الذي أوجدهم في الحياة؟ لأنه أن كانت كل معلوماتهم محصورة في الأمور الأرضية فلا شئ يميزهم عن البهائم العديمة النطق. نعم ولماذا خلقهم الله لو كان لا يريدهم أن يعرفوه؟
3- وتفاديا لهذا أعطاهم الله بصلاحه نصيبا من صورته- ربنا يسوع المسيح- وخلقهم على صورته ومثاله، حتى إذا ما رأوا تلك الصورة أي كلمة الآب، استطاعوا أن يكونوا، استطاعوا أن يكونوا فكرة عن الآب، وإذا ما عرفوا خالقهم عاشوا الحياة الحقيقية السعيدة المباركة.
4- ولكن البشر في ضلالهم وتمردهم إذا تهاونوا- رغم كل هذا - بالنعمة التي أعطيت لهم، تركوا الله كليا، واظلمت أنفسهم، لا بمجرد فكرتهم عن الله، بل أيضا باختراعاتهم الكثيرة التي اخترعوها لأنفسهم الواحد تلو الآخر- لأنهم لم يكتفوا بأن يصوروا لأنفسهم التماثيل بدل الحق، ويكرموا المخلوقات - التي لم تكن من قبل- دون الله الحي- ويعبدوا المخلوق دون الخالق( رومية 1: 25، بل والأسوأ من الكل، حولوا مجد الله إلى الخشب والحجارة، والى كل الأشياء المادية والى الإنسان، بل ذهبوا إلى أبعد من هذا كما بيننا في الرسالة السابقة.
5- ولقد بلغ بهم الفجور أنهم تقدموا لعبادة الشياطين، ونادوا بها آلهة، متممين بذلك شهواتهم، فانهم كما ذكرنا آنفا قدموا محرقات من الحيوانات العديمة النطق، وذبائح من البشر كما يلائمهم، منحدرين بخطوات سريعة وراء نزعاتهم الجنونية.
6- من أجل هذا كثر بينهم تعليم فنون السحر، وأضلت العرافة البشر في أماكن متعددة, وأصبح كل البشر ينسبون سبب ميلادهم، بل وجودهم إلى الكواكب وكل الأجرام السماوية، إذ لم يفكروا إلا في المنظور.
بالاختصار لقد أصبح كل شئ مشبعا بروح الكفر والاستباحة، وصار الله وحده وكلمته غير معروف رغم أنه لم يخف نفسه من نظر البشر ولا أعلن نفسه بطريقة واحدة فقط, بل على العكس أعلن نفسه لهم بأشكال منوعة وطرق عدة.
الفصل الثاني عشر
ومع أن الانسان خلق في النعمة, الا أن الله إذ سبق فعلم ميله النسيان، أعد أعمال الخليقة لتذكرة بشخصه. والأكثر من ذلك أنه أعد الناموس والأنبياء الذين قصد بخدمتهم أن تكون لكل العالم ولكن البشر لم يلتفتوا الا لشهواتهم.
1- لأنه وان كانت نعمة مماثلة الصورة الالهية كافية في حد ذاتها معرفة الله الكلمة، ومعرفة الأب به، الا أن الله، العارف ضعف البشر، أعد علاجا شافيا لإهمالهم، حتى إذا كانوا لا يعنون بمعرفة الله من تلقاء أنفسهم، استطاعوا بواسطة المخلوقات أن يتجنبوا الجهل بالخالق ( أو أن يعرفوا الخالق)
2- واذ تسفل اهمال البشر قليلا فقليلا الى السفليات، أعد الله مرة أخرى علاجا لضعفهم هذا، بارسال ناموس وأنبياء، رجال معروفين لديهم، حتى إذا ما تغافلوا عن أن يتطلعوا الى السماء ليعرفوا خالقهم، استطاعوا أن يتعلموا ممن يعيشون بينهم، لأن البشر يستطيعون أن يتعلموا من البشر بسهولة أكثر من السماوات
3- وهكذا كان في استطاعتهم، إذا ما تطلعوا الى السماء وأدركوا جمال الخليقة وتناسقها، أن يعرفوا مدبرها - كلمة الآب- الذي يعرف الأب للجميع بسلطانه على كل الأشياء والذي يحرك الأشياء لهذه الغاية عينها حتى يستطيع الجميع أن يعرفوا الله.
4- أو - ان لم يكن ذلك في مقدورهم - كان ممكنا لهم أن يلتقوا على الأقل بالقديسين، وبواستطتهم يعرفون الله جابل كل الأشياء، أبا المسيح ويعرفون أن عبادة الأوثان كفر بالله، ومملوءة من كل فساد
5- أو كان يسيرا عليهم أن يعيشوا حياة فاضلة خالية من كل رجس وفساد لو عرفوا الناموس. لأن الناموس لم يعط لليهود فقط. ولا أرسل الأنبياء الى اليهود فقط، الا أنهم كانوا قد أرسلوا الي اليهود واضطهدوا من اليهود، الا أنهم كانوا بمثابة مدرسة مقدسة لكل العالم لتعليم طريق معرفة الله وارشاد النفس.
6- ورغما عن عظمة جود الله ورحمته فقد خدع البشر بالملذات العابرة والغوايات والاغراءات التي أرسلتها الأرواح الشريرة، ولم يقاوموا الحق فقط، بل ثقلوا نير أنفسهم بالشرور والخطايا، فلم يعودوا يظهرون بعد كخليقة عاقلة، بل دلت طرقهم على أنه مجردون من العقل.
الفصل الثالث عشر
وهنا أيضا أكان ممكنا لله أن يسكت وأن يترك للآلهة الكاذبة تلك العبادة التي أمرنا بتقديمها اليه؟ أن الملك إذا عصيته الرعية يذهب اليهم بنفسه بعد أن يرسل اليهم الرسائل. فكم بالأحرى يعيد فينا الله نعمة مماثلة صورته. هذا ما لم يستطع البشر أن يتممواه لأنهم ان هم الا نموزج. لهذا كان لزاما أن يأتي " الكلمة نفسه ليجدد الخليقة وأيضا ليبيد الموت في الجسد
1- وإذ صار البشر مثل البهائم، وسادت غواية الشيطان كل مكان حتى حجبت معرفة الاله الحقيقي، فما الذي كان يفعله الله؟ أيسكت أمام هذا الأمر الجسيم، ويدع البشر يضلون بتأثير الأرواح الشريرة، ولا يعرفون الله؟
2- ما هي الفائدة من خلقة الانسان أصلا على صورة الله؟ كان خيرا له لو أنه خلق على صورة البهائم العديمة النطق من أن يخلق عاقلا ناطقا ثم يعيش بعد ذلك كالبهائم
3- وهل كانت هنالك ضرورة مطلقا أن يعطي الإنسان فكرة عن الله في بداية الأمر؟ لأنه أن كان حتى الآن غير مستعد أن ينالها فكان الأولى لأن لا تعطى له من البداية.
4- وماذا ينتفع الله الذي خلقهم وكيف يتمجد ان كان البشر الذين خلقهم لا يعبدونه، بل يتوهمون أن بعض الخلائق الأخرى هي التي خلقتهم؟ لأنه بهذا يبرهن الله أنه قد خلقهم لا لنفسه بل للآخرين.
5- ومرة أخرى نسوق هذا التشبيه : أن أي ملك من ملوك الأرض – وهو مجرد انسان بشري- إذا امتلك بلادا لا يتركها لآخرين لكي تخدمهم، ولا يتنازل عنها لغيره، ولكنه ينذر أهلها برسائله، ثم يتصل بهم بواسطة الأصدقاء مرارا، وإذا اقتضى الأمر يذهب اليهم بشخصه كآخر وسيلة يلجأ اليها لتوبيخهم – كل ذلك لكي لا يخدموا آخرين فيذهب عمله هباء منثورا.
6- أفلا يشفق الله بالأولى على خليقته كي لا تضل عنه وتعبد الأشياء الباطلة التي لا وجود لها، مادام تبين أن ضلالهمقد سبب تلفهم وخرابهم، ولم يكن لائقا أن يهلك أولئك الذين كانوا وقتا ما شركاء في صورة الله.
7- اذن فما الذي كان ممكنا أن يفعله الله؟ وماذا كان ممكن أن يتم سوى تجديد تلك الخليقة التي كانت في صورة الله وبذلك يستطيع البشر مرة أخرى أن يعرفوه؟ ولكن كيف كان ممكنا أن يتم هذا الا بحضور نفس صورة الله – ربنا يسوع المسيح؟ كان ذلك مستحيلا أن يتم بواسطة البشر لأنهم لم يخلقوا على صورة الله – لهذا أتى كلمة الله بشخصه لكي يستطيع – وهو صورة الآب – أن يجدد خلقة الانسان على مثال تلك الصورة
8- ثم أن ذلك لم يكن ممكنا ان يتم أيضا دون القضاء على الموت والفساد
9- ولذلك كان واثقا بطبيعة الحال أن يأخذ جسدا قابلا للموت حتى اذا ما أباد الموت فيه نهائيا أمكن تجديد البشر الذين خلقوا على صورته. اذن لم يكن كفؤا لهذه الحاجة الا كلمة الآب
الفصل الرابع عشر
ان فسد الرسم وجبت إعادته من الوصرة الأصلية, وهكذا أتى أبن الآب لكي يطلب ويخلص ويجدد الحياة ولم تكن هنالك طريقة أخرى ممكنة لأن الانسان إذ طمس بصيرته بنفسه، لم يستطع أن يبصر لكي يشفي وشهادة الخليقة فشلت عن تحفظه أو ترده عن ضلاله أما الكلمة فهو وحده الذي استطاع أن يتمم هذا ولكن كيف؟ ليس الا بإعلان نفسه كإنسان..
1- وإن تلطخت الصورة المرسومة على الخشب بالأدران من الخارج وأزيلت، فلابد فلابد من حضور صاحب الصورة نفسه ثانية لكي يساعد الرسام على تجديد الصورة على نفس اللوحة الخشبية لأنه اكراما لصورته يعز عليه أن يلقي بتلك اللوحة, وهي مجرد قطعة خشبية بل يجدد عليها الرسم.
2- وعلى هذا المثال عينه أتى الى عالمنا ابن الآب الكلي القداسة اذ هو صورة الآب، لكي يجدد خلقة الانسان الذي خلق مرة على صورته – ويجده كضال بمغفرة الخطايا، كما يقول هو نفسه في الإنجيل : " أني جئت لكي أطلب وأخلص الضال (لوقا 19: 10) ومن أجل هذا قال أيضا لليهود : " أن كان أحد لا يولد ثانية" ( يوحنا 3: 3و5) وهو لا يقصد بهذا – كما ظنوا – الولادة من امرأة، وإنما قصد التحدث عن إعادة ميلاد النفس، وتجديد خلقتها على مثال صورة الله.
3- ولكن إن كانت العبادة وثنية والمعتقدات الألحادية قد سادت العالم، وان كانت معرفة الله قد أخفيت، فمن ذا الذي كان يقوم بتعليم العالم عن الآب؟ أن قال أحد أن هذه هي مأمورية الانسان أجبناه أنه لم يكن في مقدور الانسان أن يجتاز الى كل مكان تحت الشمس، لأنه ليست لديه القوة الجسدية التي تمكنه من أن يركض بهذه السرعة، ولا هو يستطيع أن يدعي المقدرة على القيام بهذا الأمر، ولا هو يستطيع من تلقاء نفسه – مقاومة غواية الأرواح الشريرة وحيلها.
4- لأنه إذا انحرف الجميع في تيار غواية الشيطان وأباطيل الأوثان فكيف كان ممكنا لهم أن يربحوا نفس الانسان وعقلهوهم عاجزون حتى عن رؤية النفس والعقل، وكيف يتاح لشخص أن يجدد ما لم يبصره.
5- ولعل أحد يقول أن الخلقة كانت كافية. ولكن لو كانت الخلقة كافية لما حدثت كل هذه الشرور الجسيمة مطلقا، لأن الخلقة كانت موجودة فعلا، وكان البشر لا يزالون يتخبطون في نفس الضلالة عن الله
6- فالى من أذن كانت تدعو الحاجة الا لكلمة الله الذي يبصر النفس والعقل، والمحرك لكل ما في الخليقة وبها يجعل معرفة الآب ظاهرة لأن كان بعلم البشر عن الآب بأعمال عنايته وبتدبيره لكل الأشياء، هو الذي يستطيع أن يجدد ذلك التعليم عينه
7- وكيف كان ممكنا أن يتم هذا؟ رب امرئ يقول أنه كان أي بأعمال الخليقة ولكن هذه لم تعد وسيلة مضمونة بل بالعكس أن البشر سابقا رفضوا أن يبصروها، ولم يعودوا يشخصون بأبصارهم الى فوق بل الى أسفل.
8- لهذا اذ ابتغى منفعة البشر كان طبيعيا أن يأتي الينا كإنسان آخذا لنفسه جسدا كسائر البشر، ليعلمهم من الأمور الأرضية – أي بأعمال جسده- حتى يستطيع من لا يدرون أن يعرفوه من أعمال عنايته وسلطانه على كل الأشياء أن يبصروا الأعمال التي عملها بجسده الفعلي، ويعرفون كلمة الله الحال في الجسد، وفيه يعرفون الآب.
الفصل الخامس عشر
وإذ رأي " الكلمة" أن البشر حصروا في الأمور الجسدية تنازل الى مستوى تفكيرهم وأخذ جسدا والتقى بأحساساتهم في منتصف الطريق. وسواء اتجهت ميولهم الى عبادة الطبيعة أو البشر, أو الأرواح الشريرة، او الموتى فقد أظهر نفسه ربا على كل هؤلاء.
1- وكما أن المعلم الصالح – الذي يعني بتلاميذه- يتنازل الى مستواهم، أن رأى البعض منهم لم يستفيدوا بالعلوم التي تسمو فوق ادراكهم، ويقدم اليهم تعاليم أبسط، هكذا فعل كلمة الله كما يقول بولس أيضا ( إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف بحكمته استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة (1كو21:1)
2- لأنه إذ رأى أن البشر رفضوا التأمل في الله، وانحطت نظراتهم الى أسفل كأنهم قد غاصوا في العمق، باحثين عن الله في الطبيعة وفي عالم الحسيات، ومخترعين لأنفسهم آلهة من البشر الق5ابلين للفناء ومن الجن – لهذا فان مخلص الكل محب، كلمة الله أخذ لنفسه جسدا وكإنسان مشى بين الناس، وقابل احساسات البشر في منتصف الطريق وحتى يستطيع من يتخيلون الله هيوليا (1) أن يدركوا الحق بما يعلنه الرب في جسده، ويدركوا الآب فيه.
3- وهذا لأن البشر هم بشر، ولأن كل أفكارهم أصبحت بشرية ففي كل الأمور التي ركزوا فيها احساساتهم وجدوا أنفسهم قوبلوا في منتصف الطريق وعلموا الحق من كل ناحية.
4- فإن نظروا الى الخليقة بدهشة ورهبة رأوهاتعترف بالمسيح ربا وان اتجهت عقولهم نحو البشر ليتوهموا أنهم آلهة وجدوا أن أعمال المخلص – ان قارنوا بأعمال البشر- قد أظهرته وحده ابن الله دون سائر البشر، لأنه لم يقم بينهم قط من استطاع أن يأتي الأعمال التي عملها كلمة الله.
5- وا انحرفوا الى الأرواح الشريرة وجب أن يدركوا بعد أن رأوا الكلمة يطردها، أنه وحده هو الله، وأن تلك الأرواح لا شئ.
6- وان انحدرت عقولهم فوصلت الى الأموات حتى عبدوا الأبطال والآلهة التي تحدث عنها الشعراء، وجب بعد أن رأوا قيامة المخلص، أن يعترفوا أن تلك آلهة كاذبة، وأن الرب وحده هو الاله الحق.. كلمة الآب، وهو رب الموت أيضا.
7- لهذا السبب ولد وظهر كإنسان، ومات، وقام ثانية بعد أن غطى بأعماله كل أعمال البشر الذين سبقوه، حتى إذا ما اتجهت أفكار البشر الى أية ناحية استطاع أن يستردهم من هذه الناحية ويعلمهم عن أبيه الحقيقي، كما يقول عن نفسه : " أنا قد جئت لكي أطلب وأخلص ما قد هلك لوقا 10:19
الحواشي
(1) أي ذا جسد
الفصل السادس عشر
إذا فقد جاء لكي يجذب أنظار البشر الحسية اليه كإنسان وبذلك يقودهم لكي يعرفوه كإله.
1- لأنه إذا انحط فكر البشر نهائيا إلى الأمور الحسية فقد توارى الكلمة بظهوره في الجسد، لكي يستطيع كإنسان أن ينقل البشر الى ذاته, ويركز إحساساتهم في شخصه وإذ يتطلع اليه البشر كإنسان, فإنه يقنعهم بالأعمال التي عملها أنه ليس مجرد إنسان بل هو اله أيضا، وكلمة الله الحق وحكمته.
2- وهذا أيضا ما قصد أن يشير اليه "بولس" أذ يقول " وأنتم متأصلون ومتأسسون في المحبة حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين وما هو الطول والعرض والعمق والعلو وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة لكي تمتلئوا الى كل ملء الله (أفسس 3: 17-19).
3- لأن كل الأشياء امتلأت من معرفة الله بإعلان (الكلمة) نفسه في كل ناحية – فوق وتحت- في العمق والعرض. أما فوق ففي الخليقة وتحت في التأنس, وفي العمق بنزوله الى الجحيم، وفي العرض أي في العالم، لقد امتلأت كل الأشياء من معرفة الله.
4- ولهذا السبب أيضا فإنه لم يتمم ذبيحته عن الكل بمجرد مجيئه مباشرة بتقديم جسده للموت وإقامته ثانية، لأنه لو فعل ذلك لجعل ذاته غير ظاهرة، ولكن صبر نفسه ظاهرا جدا بالأعمال التي صنعها وهو في الجسد. بهذه الأعمال التي عملها والعلامات التي أظهرها، لم يعد معروفا بعد كإنسان، بل كالله (الكلمة).
5- لأن المخلص بتأنسه تمم عمليتي المحبة (أولا) برفع الموت عنا وتجديدنا ثانيا (ثانيا) باعلان نفسه وتعريف ذاته بأعماله بأنه كلمة الآب، مدبر وملك الكون، إذ كان غير ظاهر ولا منظور.